قبل الدخول في صلب الموضوع، أي تناول مسألة العلمنة في نظر المسيحية ونظر المسيحيين، أحب أن أحدد بعض المعاني التي يمكن للكلمة أن ترتديها، ثم أقوم بتحديد ماهية العلمانية، حتى أصل إلى إلى البحث عن إمكانية التوفيق بين العلمانية والمسيحية.
أولاً ـ المسيحية عقيدة ومجتمع: يمكن أن نفهم المسيحية من زاويتين: زاوية العقيدة Christianisme وزاوية المجموعة السوسيولوجية التي تعتنق هذه العقيدة المسيحية كعقيدة هي مضمون، أما المسيحية بالمعنى الاجتماعي فهي المجموعة السوسيولوجية التي كانت تعيش في أوربة مثلا، في القرون الوسطى، لكنها اختفت تماما اليوم لأن المجتمع الأوربي لم تعد له صفة المسيحية. بينما في لبنان، هناك مجموعات من الطوائف يمكننا أن نسميها مسيحية، انطلاقا من المعنى الاجتماعي السابق ذكره.
ثانياً ـ الوحي والعقيدة والإيمان والدين: يجب أن نميز بين ما نسميه الوحي وما نسميه العقيدة والإيمان والدين، إذ أن الصراعات التي نشأت عند الحديث عن العلمانية مردها، جملة، إلى الخلط بين هذه المعاني. فالوحي هو “الشئ الأول” الذي نعتبره خارجا عن إرادة الإنسان… أعطي للإنسان من “الخارج”، من “فوق”: نحن المسيحيين نؤمن أن المسيح هو ابن الله الذي تجسد، وأن كلام الذين أتوا من بعده هو كلام مستقل عن إرادة الإنسان… أعطي له كحقيقة. فإذا سلمنا بهذه المعطيات كحقيقة أصبح لنا العقيدة. فالعقيدة هي أن تسلم أن الوحي يمثل الحقيقة عن الله وعن علاقته بالبشر. أما الفرق بين الإيمان والعقيدة فهو أن الإيمان هو المضمون الداخلي، هو الحالة النفسية التي يعيشها الإنسان تجاه هذا الوحي، بينما العقيدة هي التجسيد التعبيري لهذا الإيمان بالوحي.
ثالثاً ـ الحقيقة والواقع: أود أن أميز هنا بين الحقيقة Vérité والواقع Réalité. فكلمة الحقيقة، في لغتنا العربية، غامضة ومطاطة، ونحن نترجم كلمة Réalité بكلمة “حقيقة”، في حين أنها تعني “الواقع” و”مضمون الحقيقة”..
رابعاً ـ العقيدة وتجسدها: الأخلاق والقوانين والمؤسسات: العقيدة هي تجسيد للإيمان، ويمكن تجزئتها إلى عقيدة “نظرية” وعقيدة “عملية”، والأخيرة تتجسد في الأخلاقيات والقوانين والمؤسسات. فالأخلاقيات هي الممارسة الشخصية والجماعية انطلاقا من العقائد الإيمانية. والعقيدة والأخلاق يمكن تنظيمها في إطار تشريعي، فنصل بذلك إلى مجموعة القوانين والتشريعات التي لدى الكنيسة الكاثوليكية أو الأورثذوكسية أو البروتستانية، كقانون الأحوال الشخصية في لبنان الذي هو تشريع منطلق من أخلاقيات تقول ـ مثلا ـ أن الزواج سر مقدس لا يجوز أن يعطى أكثر من مرة مادامت الزوجة على قيد الحياة. ثم هناك المؤسسات، من مستشفيات إلى مدارس الخ.. وركيزة هذه المؤسسات هي الاعتبار أن الإيمان الذي لا يجسد في أعمال إنما هو إيمان ناقص. ومع الكلام عن المؤسسات، تتجسد العقيدة في مؤسسة السلطة، سلطة الكنيسة التي وجدت أصلا لخدمة المجموعة المؤمنة والتي أصبحت فيما بعد للرئاسة والتسلط وإصدار القوانين وتقرير أو ترخيص المؤسسات التي “تنطلق” من الأمور الإيمانية الأساسية: الإيمان بالمسيح.
أولا: المسيحية هي المسيح: إن العناصر الخمسة التي أتيت على ذكرها ـ العقيدة، الأخلاقيات، التشريعات، المؤسسات، السلطة ـ هي التي تؤلف الدين، وهي موجودة في جميع الأديان لا في المسيحية فقط. لكن الحقيقة الأساسية التي لا تقال عادة، لا في لبنان ولا في سائر البلدان، هي أن المسيحية ليست دينا، بل هي فقط المسيح والإيمان بالمسيح. لقد جعلت المسيحية دينا لكنها أساسا لم تكن بدين. الأخلاق والقوانين والمؤسسات والسلطة، في المسيحية، كلها أمور ألصقها الإنسان بالدين المسيحي على مر التاريخ.. ان المسيحية كعقيدة، هي الإيمان بأن المسيح هو كلمة الله، هو ابن الله، هو أحد الأقانيم الثلاثة، الذي صار إنسانا. إنها الإيمان بهذا الوعي الأولي، وهذا هو المعطى الأساس في المسيحية، أما كل ما تبقى فهو تجسيد لهذا اللقاء بين الإله والإنسان. فالأناجيل مثلا نسبية، فليس هناك كلام انجيل مطلق، وهذا الكلام ليس المسيحية بحد ذاتها. وتعاليم الكنيسة، منذ عصورها الأولى حتى يوحنا، هي مجرد تجسيد “نسبي” لهذا الواقع الإلهي الإنساني الذي نسميه المسيح، وهو الظاهرة الوحيدة في الكون التي تقول أن الله والإنسان على مستوى واحدوإلا لما التقيا فأصبح الله إنسانا والإنسان إلها ـ كما يقول الآباء اللاهوتيون في القرنين الثالث والرابع.
فما معنى الإنجيل إذن إن الأناجيل الأربعة هي محاولة للتعبير عن هذا اللقاء بين الله والإنسان، وهي المحاولة الأولى التي تليها محاولات أخرى. وهذه المحاولة وجميع المحاولات المستقبلية ستكون قاصرة عن أن تلتقط مطلقية هذا المضمون وعن أن تعبر تعبيرا كليا عن هذا الواقع. وهذه المحاولات قد تشكل الدين المسيحي لكنها ليست الإيمان المسيحي: إنها تجسيد نسبي مؤقت وتاريخي يجب تجاوزه وتخطيه باستمرار، أما التشبث به فهو تشويه للمسيحية.
والكلام الذي نسب إلى المسيح ليس مطلقا، فكلماته هي تفصيل لـ “الكلمة” Logos، والمسيح هو “كلمة الله”، وسمي كذلك لأن لفظة Logos اليونانية تعبر تعبيرا كاملا عن لقاء الله والإنسان، ولأن كلامنا كبشر لا يعبر إلا تعبيرا ناقصا عن المعنى الكامل المطلق لهذا اللقاء. لذلك، الكلمات التي نسبت إلى المسيح هي نسبية لأنها من التقاط البشر في زمان ومكان معينين، وقد تكون وصلت إلينا مشوهة وناقصة. وحتى لو وصلنا كلام المسيح على أشرطة تسجيل فإنه يظل نسبيا، إذ أنه يتكلم عبر ثقافة معينة، ومحيط معين، وحضارة معينة هي الحضارة العبرية أو الآرامية التي ظهر فيها، وهو إلى ذلك غير قادر على قول كل شئ وإفهام كل شئ: “لا يمكنكم الآن أن تتحملوا كل ما أقوله لكم ولكن عندما يأتي الروح القدس هو يقودكم إلى الحق” (انجيل يوحنا).
إذن في المسيحية لا يوجد سوى مطلق واحد هو المسيح، وكلام الأناجيل نسبي قياسا إلى اللامطلق الذي هو المسيح، أي الآباء القديسون، اللاهوت، التعليم الكنسي، البابا المعصوم عن الغلط لذلك نقول إن المسيحية هي ماوراء المسيحية، المسيحية الحق هي دائما ماوراء المسيحية..
وبسبب هذه “الديالكتيكية”، مطلوب من المسيحيين، في كل عصر، أن يعيدوا النظر في معنى مسيحيتهم لا أن “يجتروا” المسيحية، فاجترار المسيحية جريمة ضد المسيح. إن فهم “التقليد المسيحي” على أنه “نسخ” إنما هو جريمة في حق المسيح، لأن هذا التقليد هو في الحقيقة تجديد في كل عصر للنظرة إلى الأساس ـ الإله الذي أصبح إنسانا: ما هو تجسيده القديم ما يجب أن يكون تجسيده المعاصر ولا يستطيع أي مجمع كان أن يحصر المسيحية في أطر ضيقة، فكرية أم اجتماعية أم اقتصادية أم سياسية أم ثقافية أم حضارية. وهذه النظرة إلى المسيحية هي نظرة جذرية.
ثانيا: المسيحية المجتمعية: المسيحية المجتمعية هي مسيحية نسبية، فهناك مسيحية في فرنسا، ومسيحية أخرى في لبنان، ومسيحية ثالثة في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ أن كل مجتمع له خصائصه، وعلى المسيحية أن تتكيف وهذه الخصائص. كما أن هناك مسيحية القرون الوسطى، ومسيحية القرن العشرين، إذ لكل عصر تجسيدات للمسيحية تختلف باختلاف خصائصه.
المشكلة هنا تبرز في التناقض بين الإيمان والتدين: فالمسيحيون إما أن يكونوا مؤمنين ومتدينين في آن واحد، أو أن يكونوا غير متدينين، أو أن يكونوا متدينين غير مؤمنين. لكن المؤمنين غير المتدينين الذين اكتشفوا مطلقية المسيح ورفضوا جميع تجسيداتها إنما هم قلائل عبر تاريخ الكنيسة. فمن غير الواقعية أن يكون هناك مطلق غير متجسد، فإذا كانت الكلمة التي عند الله قد أصبحت جسدا (يوحنا في أول إنجيله)، فكيف هي الحال بالحري مع الأخلاقيات والعقائد وتفسير كلمات الكلمة رفض القوانين والتشريعات والمؤسسات والسلطة، إذن، غير منطقي وغير واقعي، لكن المهم أن ندرك بأن اعتبار هذه القوانين والتشريعات والمؤسسات والسلطة كتجسيدات نهائية ومطلقة هو أيضا أمر غير مسيحي ولا يمت للمسيحية بصلة.
العلمانية والمسيحية: هنا نتساءل: هل العلمانية من متطلبات المسيحية، أم أن المسيحية تقبل بها على مضض، أم ترفضها بشدة؟
العلمانية (بفتح العين) هي غير العلمانية (بكسر العين) وغير متفرعة من لفظة عِلم التي تعطي علمية وعلمانية (بكسر العين) أي Scientisme. العلمانية (بفتح العين) متفرعة من كلمة عالم، هذا العالم المتميز عن “العالم الآخر”. وكلمة عالم أعطت أولا عالمانية التي اختصرت فيما بعد بكلمة علمانية (كما أن كلمة راهب أعطت راهبانية ثم تحولت إلى رهبانية).
العلمانية المعاصرة بدأت أولا هجومية. فقد رفض التيار العلماني آنذاك مقومات الدين: رفض السلطة والكنيسة ومؤسساتها. ففي فرنسا مثلا كان مطلب علمنة المدارس. وبعد صدور قانون الجمعيات سنة 1901، أغلقت جميع الرهبانيات ورفض إعطاؤها رخصا، كما منع الرهبان من التعليم في المدارس أو إنشاء المدارس التي تجسد التفكير الديني. ثم كان رفض القوانين والتشريعات الدينية، فكانت المطالبة بالزواج المدني. ومن خلال رفض القوانين والمؤسسات والسلطة، كان رفض الأخلاقيات التي وصفتها الكنيسة، ورفض العقيدة. وهكذا، حصل أن رمي والماء معا، أي أن هذا التيار لم يفرق بين الأساس الذي يجب أن يبقى دون أن يشكل خطرا على المجتمع، وبين ما يجب أن يرمى جانبا.
هذا ما حصل في البلدان الرأسمالية الليبرالية، أما في الأنظمة الماركسية فلا داعي للتفصيل، فأنتم تعرفون كلمة ماركس الشهيرة: “الدين أفيون الشعوب”، وخاصة الطبقات الكادحة منها، فإذا بالماركسية ترفض الكنيسة ورجال الدين، وترفض التشريعات والمؤسسات الكنسية.
هذه الهجومية مردها أن الإنسان في الغرب كان يحس أنه غير متحرر من أمور كثيرة، كان يحس بالاستلاب أو القصور ويطمح أن يصير راشدا. فكان أن ثار ضد العبودية: أي الملكية والارستقراطية، وأيضا ضد رجال الأكليروس المتعاطفين معهما، وضد الدين.
وكان لهذه العلمانية الهجومية نتائج سلبية ونتائج إيجابية، والأخيرة هي أن الهجومية دفعت الكنيسة إلى إعادة النظر في جوهرها، إلى تطهير ذاتها من الشوائب الداخلية الذاتية، إلى إعادة التمييز بين المطلق والنسبي، بين جوهر المسيحية وتجسيداتها التاريخية وتشويه المسيح عبر هذه التجسيدات.
لكن الكنيسة لا تزال في منتصف الطريق ولم تصل بعد إلى نهايته. فكثيرون يريدون الإبقاء على مطلقية المسيح في المعتقدات، بحيث يتشبثون بالتعليم المسيحي الذي يريدونه مقابل تنازلات أخرى. وهم لم يعوا أن التخلي عن حق الكنيسة بحرية التعليم الديني لا يقتل المسيحية ولا يعني التخلي عن جوهر المسيحية الذي هو المسيح. هذا التخوف هو في غير محله: المسيحية ليس فيها نقطة ضعف ينفذ منها البعض لقتلها. المسيح، والإيمان بالمسيح، الإله ـ الإنسان، هما جوهر المسيحية، وكل ما تبقى يمكننا خلعه كثوب قديم. الثوب الوحيد الذي يجب ارتداؤه هو المسيح: “أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم، المسيح لبستم”، وكل ما هو فوقه هو رداء يجب خلعه. وهذا النوع من الجذرية لم تتوصل إليه الكنيسة بعد.
وإذا ما تتبعنا تاريخ العلمانية في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية فإنه يتبين لنا أنها لم تعد مناوئة للمسيحية وبعض تجسيداتها، بل أضحت علمانية فكرية، اكتشفت أن للعالم ومؤسسات العالم وقيمه وعناصره قيمة بحد ذاتها غير صادرة عن علاقتها بالدين المسيحي، أو أي دين آخر. فمثلا، إن الحرية والعدالة والتضامن والمساواة والأخوة كلها لها أصول متنوعة، في أديان أخرى أو فلسفات متعددة، عند المؤمنين والملحدين، ومن ثم هي موجودة في الإنسان كإنسان. وبالتالي فإن الإنسان له قيمة بحد ذاته، مؤمنا كان أم غير مؤمن، والدين ليس هو الذي يعطي للمؤسسات الإنسانية قيمتها، ثقافية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية.
وقد وصل التطور بالعلمانية العدائية إلى العلمانية الحيادية التي يمكن تحديدها بأنها التأكيد على استقلالية العالم عن الدين، العالم بكل مكوناته عن الدين بكل عناصره التي ذكرنا وحللنا. أي ليس استقلالية الدولة عن الكنيسة فحسب، كما يحلو للبعض أن يحدد العلمانية حتى الآن، فهذه علمانية جزئية لا يجوز اطلاقها على الكل. وهنا نستطيع أن نفصل أبعاد العلمانية الشاملة بحسب أجزائها: العلمانية السياسية، العلمانية الوظيفية، العلمانية المؤسسية، العلمانية الفردية، العلمانية القيمية، العلمانية الفكرية. ولنتوقف، مثلا، عند العلمانية الأخيرة.
في العصور الوسطى كانت الفلسفة تسمى خادمة اللاهوت، وكانت خاضعة له. كانوا يقولون: فكرنا يوصلنا بجهوده إلى حد معين من المعرفة، لكنه يبقى قاصرا عن المعرفة الأكيدة. ثم تحررت الفلسفة من اللاهوت، بمعنى أنه صار لها نطاقها المحدد الذي يوصل إلى الحقيقة، دون أن تحتاج إلى تثبيت اللاهوت، ولكن، في الوقت ذاته، أصبحت الفلسفة أيضا حيادية تجاه اللاهوت، تعترف بأن له نطاقه، وبأنه يصل إلى الحقيقة دون المرور بالفلسفة. إذن، وصلنا إلى استقلالية الفكر الفلسفي عن الفكر الديني دون أي عدائية، كذلك حصل مع جميع العلوم التي استقلت عن الفكر الديني قبل الفلسفة، فأصبح التفاعل ممكنا، بسبب الاستقلالية أو الحيادية الايجابية، بين الفكر الفلسفي والعلمي من جهة والفكر الديني من جهة أخرى. وهنا يجدر القول أن الكثيرين يخلطون بين العلمانية والعقلانية، فالعقلانية هي صفة للمعرفة المستندة إلى العقل والمنطق دون أية مداخلات عاطفية أو دينية غيبية، وهي بهذا المعنى أوسع من العلمانية، والعلمانية جزء منها.
والآن نسأل: هل تقبل المسيحية بالعلمانية؟
بعد هذه الايضاحات حول المسيحية من جهة، مع التأكيد على مطلقية المسيح والعلمانية من جهة أخرى، ومع التأكيد على الاستقلالية والحياد الإيجابي بين العالم ومقوماته من جهة ثالثة، يمكن القول أن العلمانية ليست فقط غير متعارضة مع المسيحية، بل هي من مستلزمات الإيمان المسيحي.
فإذا ما تذكرنا بأن المسيحية ليست دينا بقدر ماهي المسيح، وأنها تتجسد في دين عبر كل زمن، ومن الضروري أن تتجاوز هذا التجسد لئلا يصبح صنمية، وأن التطور يتم بحسب قياس الإنسان وخيره لأنه هو هدف المسيح، أمكننا القول بأن المسيح يؤمن بقيمة الإنسان بحد ذاته لا بسبب تدينه بالدين المسيحي.
أولاً ـ في حقل القوانين: لنأخذ المثل الذي يطرح دائما اليوم في حقل القوانين: هل الزواج الديني الكنسي هو ضروري الجواب هو: لا. لماذا لأن الرجل والمرأة لهما قيمة في حد ذاتهما، فإذا قالا بملء حريتهما أنهما يريدان الزواج الواحد من الآخر فإن عقد الزواج يتم، سواء كانا مسيحيين أم لا، مؤمنين أم غير مؤمنين. ففي المسيحية، ليست بركة الكاهن هي التي تحدث عقد الزواج، بل الرضا المتبادل بين الزوجين. وبالتالي فإن الزواج المدني ليس ضد التعليم المسيحي، بل هو ضد قانون كنسي زمني، أي بدأ في زمن ما ويمكن أن ينتهي في زمن آخر. وفي تاريخ الكنيسة شواهد عديدة على ذلك. وفي بلادنا بالذات كان زواج رجل مسيحي وامرأة مسيحية أمام الشيخ أو القاضي المسلم معترفا به في الكنيسة كزواج صحيح. وفي أمريكا الجنوبية هناك مناطق لا كاهن فيها شرعت الكنيسة أن الزواج صحيح أمام معلم التعليم المسيحي وشاهدين إثنين.
وتمنّع الكنيسة في بعض الأمكنة من القبول بهذه العلمنة للزواج، وتمسكها بالزواج الكنسي، لهما أسباب غير التناقض بين الزواج المدني والإيمان المسيحي: منها الخوف من ابتعاد الناس عن الكنيسة، فالزواج في الكنيسة يظل يربط المسيحيين بها. ومنها حاجة الكنيسة إلى المداخيل المالية من عقود الزواج. ومنه الرغبة في النظر بالخلافات الزوجية لئلا يسهل الهجر والطلاق بين الزوجين لأدنى سبب. كذلك القول عن المحاكم الكنسية، فهي ليست من أصول الدين المسيحي، إذ عندما يكون الزواج ممكنا أمام القضاء المدني، فإنه يمكن النظر بالعقد ونتائجه الاجتماعية والقانونية أمام هذا القضاء نفسه.
وقد يأتي الاعتراض: ولكن الزواج ليس عقدا فقط، بل هو معتبر كسّر. فكيف يمكن أن يتم السر دون وجود الكاهن والصلاة ! والجواب أن كلمة سر غير واضحة في أذهان الكثيرين، فإذا وضحت سهل الرد على الاعتراض. فـ “السر” يعني في المسيحية حدثا أو واقعا إيمانيا له علاقة بالمسيح، وإذا أخذنا مثل “القربان” سهل فهم ذلك. إن القربان المقدس هو بحسب إيماننا علاقة الإنسان بالمسيح من خلال الخبز والخمر المقدمين حسب وصية المسيح مع ذكر آلامه وموته وقيامته، أي في هذه المناسبة يؤمن المسيحي أنه دخل في علاقة حميمة مع المسيح، واتحد به أكثر من خلال العلاقة الحسية التي هي الخبز والخمر. والزواج سر بمعنى أن الرجل والمرأة، من خلال إعطائهما ذاتيهما الواحد للآخر برضا وحرية وإيمان، يتحد وأحدهما بالآخر ويتحدان معا بالمسيح: “حينما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فأنا أكون بينهم أو فيهم”. ويعني بـ “الاثنان” الرجل والمرأة خاصة، وبالثلاثة الجماعة الإنسانية الصغرى ـ لأن إيماننا أن المسيح هو الموحد للبشرية، “جئت لأجمع أبناء الله المشتتين إلى واحد”.. “ليكونوا بأجمعهم واحدا كما أنا وأنت أيها الآب واحد”. فالإيمان المسيحي هو الإيمان التوحيدي: توحيد الأشخاص في الله. فالله ليس انعزاليا، الله وحداني، ووحدانيته ليست انعزالية بل هي وحدة واتحاد ثلاثة أشخاص في كيان إلهي واحد. الإيمان المسيحي إيمان توحيدي للإنسان والله في المسيح يسوع، وللإنسان مع الإنسان في دعوة المسيح للمحبة والوحدة، سواء كان ذلك في الزواج أو الصداقة أو المحبة الأخوية أو محبة القريب أو محبة الأعداء. البشرية كلها دعوة إلى الاتحاد، وكل ظاهرة اتحاد في البشرية نحن نؤمن أن للمسيح شأنا فيها، ومنها الزواج.
“السر الزواجي” حاصل إذن في حال حصول “العقد الزواجي”، أي في حال اتحاد رجل وامرأة بحرية ورضا كاملين بحيث لا يتم اتحادهما بالمسيح. لذلك يمكن الاستنتاج بأنه عندما لا تكون حرية حقيقية ورضا حقيقي، فإنه لا يتم لا زواج ولا سر، حتى بحضور الكاهن. وقد أصبحت المحاكم الكنسية، حتى الرومانية، تمارس هذا الاجتهاد، فتعلن بطلان الزواج عندما تتأكد أنه لم يتم اتحاد حقيقي بين الزوجين، ليس فقط بسبب الإكراه، بل بسبب عدم النضج النفساني، أو عدم الالتزام الإرادي من قبل الاثنين، أو أحدهما.
إذن، يمكن القول أن لا مانع من قبل الإيمان المسيحي أن تكون كل الأحوال الشخصية معلمنة، من الزواج إلى البنوة إلى الإرث إلخ…
وثانياً ـ في حقلي السياسة والاقتصاد: هنا أيضا، في حقلي السياسة والاقتصاد، لا تتعارض العلمانية مع الإيمان المسيحي. وفي الكنيسة الكاثوليكية، كان المجمع الفاتيكاني الثاني واضحا جدا من حيث استقلالية الأنظمة السياسية والاقتصادية، ليس فقط استنادا إلى كلمة المسيح “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” (وهي غالبا ما تفسر خطأ في كثير من اللاهوتيات والروحانيات)، بل استنادا إلى تعليم المسيح كله.
المطران غريغوار حداد (1980)
الإمعان في حقوق الإنسان الجزء الأول