VOLTAIRE
François Marie Arouet
لنعترف أن تصنيف فولتير يشكل مشكلة حقيقية.. فكيف يتسنى التفصيلُ في عمل يحتوي على كل القضايا الخلافية الممكنة، ويكاد يغطي القرن الثامن عشر كله تقريباً بل وكيف يُمكن وضع الخطوط التي تفصل بين فولتير ومجايليه من كبار فلاسفة عصر الأنوار بفلسفاتهم التي مازالت حاضرة بقوة حتى اليوم إنه مسرحي، وناقد أدبي، ومؤرخ، وقاص وروائي، ومثقف موسوعي، بامتياز. غير أنه قبل ذلك كله مراقب يقظ للعالم الذي يحيط به، ومنافح عنيد ضد كل أشكال الصَغار الخلقي والفقر الروحي والتعسّف. ولأنه كان مكّاراً، ساخراً، لاذع النقد قوي الأسلوب والحجة، فقد ترك في حياته من الحزازات ما يفوق كل وصف. حقد عليه رجال الكهنوت لأنه وضعهم في أس فساد العالم القائم وصوب عليهم حمم انتقاداته الوخّازة. وحقدت عليه الأسرة المالكة الفرنسية لكونه لم يبخل عليها بنقد هو إلى الطعنات أقرب: “ليعمر عساكركم بلادكم بدلاً من أن يخربوا بلاد الآخرين”، وهم في حرث الأرض وتعبيد الطرق “أكثر فائدة لبلادهم منهم في الاستعراضات”. في العام 1617 سجنه الوصي على العرش في سجن الباستيل الرهيب لمدة تسعة أشهر لأنه سخر منه وتحداه. وفي 1625 نفاه لويس 15 إلى إنجلترة لمدة ثلاث سنوات لسبب مشابه. وحين عاد من المنفى الإنجليزي، نشر كتاب الرسائل الفلسفية Les lettres philosophiques الذي سيحرقه البرلمان لأنه انتقد فيه التقاليد الاجتماعية والدينية الفرنسية، من ناحية، وحض على التسامح، من ناحية ثانية، واقترح نموذجاً ليبرالياً قريباً من النموذج البريطاني، من ناحية ثالثة. وقد ظل عملياً طيلة حياته طريداً من مسقط رأسه باريس. وحتى بعد موته إثر شهرين فقط من عودته الظافرة إليها، دفن خارج باريس جراء رفض راعي كنيسة سانت سولبيس إجراء مراسيم دفنه. هكذا سيظل بعيداً عن الوسط الفلسفي والأدبي الباريسي، دون أن يتوقف البتة عن الكتابة والتأليف، وبالأصح عن مواصلة خوض معركة فكرية» سياسية ضد الظلم ومن أجل العدالة استمرت حتى أخريات حياته.
اتهمه أعداؤه بالإلحاد،. غير أن فولتير لم يك ملحداً. فقد كان متديناً من طراز خاص. استنكر مسيحيي عصره، وفي مقدمهم الكهنة، ولكن باسم الإيمان “الحق” نفسه. يكتب في رسالة إلى جوليا Eptre Julie (1722) مخاطباً الله: “لست مسيحياً، ولكن كي أحبك أكثر”. وفي 1770، بعد أن نشر البارون دولباخ “نظام الطبيعة” Systéme de la nature، ينخرط فولتير في معركة ضارية هدفها إيقاع الهزيمة في إلحادية دولباخ ودنيس ديدرو وغيرهما باعتبار أن الإلحاد يفضي إلى تدهور الخلق. فالأخلاق تنغرز بين الناس بفضل الإيمان بالله.
ومع ذلك. ليس فولتير نصيراً لكل دين. فقد يتحول الدين إلى عقيدة تطيّر وخرافات، ويغدو عقبة في وجه السعادة البشرية ونور العقل. إن التزمت والإيمان بالخرافات، وتحكم الكهنوت لأغراض دنيوية بائسة، تنغّص على الناس عيشهم وتُضيّق أفقهم وتضعهم تحت رحمة قوى تُضرّ بهم. هكذا يدعو فولتير في قاموسه الفلسفي (مادة “المسيحية”) إلى مسيحية تعود إلى نقاء أصولها الأولى، غير متعصبة، تخلو من الحقد والكراهية، كي “يتمكن الناس جميعهم من أن يتذكروا أنهم أخوة”. فالخلق مشترك لدى البشر كلهم الذين يستخدمون عقلهم. إن الخلق كمثل النور يصدر عن الله. ثم إن فلسفة التاريخ الفولترية تلح على ترجيح القول بوحدة الطبيعة البشرية وتنوع العادات. الأمر الذي يحثه على تكرار التأكيد بأن الطبيعة تنزع في أسها إلى الوحدة، وتتدرج نحو التخفيف من الفوارق والإنقاص من الحواجز التي تحول بين البشر وبين طبيعتهم. فلئن كانت العادة جعلت الشر يتمظهر بصور متباينة في المكان والزمان، فإن ذلك لايعني أن الطبيعة تقبل بالفوضى والاضطراب. بل إن فولتير مقتنع بأن الميل للنظام، للتعقل والوحدة إذن، يبرز خلف الفوضى العامة البينة. والناس يتعلمون بفضل حماقاتهم وتعاستهم وبسببها. إن المجتمعات تتعلم كيف تعدل من آرائها، ويتعلم الناس كيف يفكرون بشكل سليم.
ولو أردنا أن نختصر عمل فولتير بهم واحد أو بقضية واحدة، لقلنا إنه عاش حياته المديدة كلها وهو يتطير من التعصب، وإن الزمن عزز من قناعته بضرورة تحرير البشرية من وباء التعصب الذي هو، كما يكتب في اكثر من موضع، ثمرة الجهل والتخلي عن الحس السليم، وأصل كل وباء. بل ويمكن القول إن عمل فولتير من بدايته حتى نهايته هو عمل واحد: موسوعة تخترقها الهموم نفسها وتحاصرها الأسئلة نفسها وهي الأسئلة المتصلة بكيفية تنحية الشيطان عن صولجانه وبالأصح إنقاذ البشرية من صغائرها. وليس غير العقل سبيلاً لذلك، فهو الحاجز القوي في وجه الهمجيات، وهو الكابح الحقيقي لكل بؤس، وهو المسوغ المتين لكل معركة لصالح العدالة وفي مواجهة الظلم. هكذا سيجد فولتير في قضية كالاس (وهو بروتستانتي من تولوز أعدم بشكل تعسفي)، مناسبة سانحة لخوض معركة علنية لصالح العدل. سيكتب “بحث في التسامح” (1763)، ثم بحثاً كاملاً على هامش مؤلف بِكاريا Beccaria “كتاب الجنح والعقوبات” يدعو فيه إلى تنقية التشريع من الهمجية، وإلى أنسنة القانون. وتستند دعوته على مبدأ الوقاية لا المعاقبة، وعلى تصفية العوامل الاجتماعية التي تؤدي إلى الجنوح. سيقول عن العقد الاجتماعي لجان جاك روسو “إننا بالتأكيد أشخاص متساوون، بيد أننا لسنا أعضاء متساوين في المجتمع”. وهو نقد يصب مباشرة كما هو بيّن في إعلان حقوق الإنسان في العام 1789. وبهذا الخصوص، توقّع فولتير ببصيرة نفّاذة حدوث “ثورة قادمة لا محالة لن أسعد بمشاهدتها… فلقد انتشرت الأنوار بحيث إنها (الثورة) ستندلع في أول مناسبة”.
كمثل جل معاصريه من مفكري عصر الأنوار، اعتقد فولتير أن مآسي البشرية من فساد وبؤس وظلم مصدرها الجهل. غير أن الجهل لا يعني لديه مجرد عدم الإلمام بالقراءة والكتابة، بل الجهل بالطبيعة وهي أم النواميس والخيرات ومصدر الثروات والسعادة. ثم إن الجهل مترتب عن الفساد القائم الذي هو بدوره نتيجة مباشرة من نتائج الخروج عن الصراط القويم أو الفطرة: الحالة الطبيعية الأولى قبل أن تشوهها الحضارة ببهرجها ومباذلها المفسدة. وليس غير الفيلسوف، بنظرته الثاقبة للأمور وببحثه عن الأصول والعلل الأولى والأسباب الموجبة، من يقدر على أن يكتشف ويكشف، وعلى أن يعلم الناس أن ما يعتقدون أنها حقائق، هي ليست كذلك.
هكذا نفهم إلحاح فولتير على إنجاز المعجم، أي على إعادة بناء اللغة بما هي أداة المعرفة ومضمونها في الوقت نفسه. فيه يرجع الفيلسوف الأمور إلى نصابها ويضع المعرفة في متناول الناس. “أقول لكم: حددوا المصطلحات، وإلا فإننا لن نتفاهم البتة”. والصحيح أن عمل فولتير هو عمل معجمي بامتياز. فقاموسه الفلسفي، وتعريفاته جميعها (9 مجلدات)، وكذلك كتبه ودراساته الطويلة (مثل عصر لويس الرابع عشر؛ بحث في الأخلاق وروح الأمم؛ بحث في التسامح؛ وغيرها) تندرج كلها في هذا الهم المعجمي، التعريفي الكبير. وهو هم يلخص بأمانة نادرة رأيه بأن مسيرة الحضارة باتجاه الأنسنة هي نفسها مسيرة البشرية باتجاه الأنوار، وأنها تتحقق عبر تقدّم الفكر نحو إفصاحه المتكامل عن حقيقته كفكر، أي كعقل ونور.
أراد فولتير التعرف عن كثب إلى التاريخ الكلي، الكوني للبشرية، وذلك بغرض واضح هو فهمه واستيعاب أسراره وحكمته الرئيسة، وكشفها إلى الملأ. وسيبدأ بالضرورة بنقد المؤرخين في عصره. فلا يجدر بالمؤرخ أن يوافق إلا على ما يتناسب مع المنطق السليم. أما الأساطير والحكايا والخرافات التي تقدم للناس على أنها قصص تاريخية وقعت، فإن فولتير لا يتوانى عن فضحها واستنكارها ونقدها، والسعي إلى التزود بالمادة البحثية الضرورية لتهديمها.
في “فلسفة التاريخ”، التي ستصبح مقدمته ل”بحث في الأخلاق وروح الأمم”، يبدو فولتير كما لو كان تيقن من أنه تمكن من اكتشاف كنه التاريخ الأول لكل تاريخ، أي تاريخ الشرق القديم، الأمر الذي سيتيح له ألا يتردد في تهديم الموسوعات التاريخية الرائجة في عصره، وأن يعمل فيها تمحيصاً نقدياً. سيبرهن، على سبيل المثال لا الحصر، أن الصورة التاريخية للعبرانيين القدماء هي صورة أسطورية بامتياز. فهم ليسوا أكثر من شعب همجي من بين غيره من الشعوب الهمجية الأخرى التي تحيط به. ولما كان قرأ العهد القديم بتمعن، فقد روعته المجازر التي تتحدث كتب العهد القديم عنها بإعجاب، وسيعمق هذا من قناعته الراسخة بضرورة إخراج البشرية من جهالتها وهمجيتها. وكان متيقناً من أن عبور غياهب الجهالة يمهّد بالضرورة لرحاب العقل النيّرة. ثم إن المؤرخين لا يقومون بغير مراكمة الوقائع: معارك، منازعات سياسية، مؤامرات البلاط، ومواكب الأمراء الذين لا يستحقون الذكر. ومع أننا “نحتفظ بذكرى الأمراء الفاسدين كما نحتفظ بذكرى الفيضانات، الحرائق والطاعون”، لكن التاريخ الحقيقي هو قبل ذلك تاريخ الناس: كيف يعيشون، كيف يفكرون، كيف يجتمعون في المدن والقرى، كيف يكوّنون عاداتهم وتقاليدهم، وكيف تتعامل سلطتهم معهم، فهل هم أحرار أم عبيد هذا هو واجب المؤرخ الصحيح باعتبار أنه يمسك بيديه مفتاح المعرفة الحقيقية.
ولا يشكل فولتير الأديب انعطافة في فولتير المفكر. فليس الانتقال من لغة الفلسفة إلى لغة الأدب تغييراً لا في طبيعة المعركة التي وطن فولتير نفسه على خوضها، ولا في طبيعة المفهوم الفولتيري. فليست السخرية بحد ذاتها وعياً فكاهياً بالكون. ففي السخرية إعادة تكوين للعالم، ووضع للشياطين في مكانها الوحيد الذي تستحقه وهو الإدانة اللاعنة. ألم يجرجر أرسطوفان سقراط في الوحل وألم يضع المعري كبار عصره في أسافل جحيم فَصّلَه على سعة بصيرته الشوّافة أليست روايات “كانديد” و”الجني” و”الطيب” وغيرها سلاحاً يتوسل به فولتير الإمساك بتلابيب الفلاسفة والإيديولوجيين التائهين في شاهق الأفكار باسم الحس السليم
يبدو فولتير اليوم كما لو كان محاصراً ببشرية تبحث عن يقين في عالم يكسر كل يقين. فلقد أخرجه الفلاسفة من حقلهم، ولم تستطع الثورة الفرنسية الجيروندية أن تجد لديه ما يسوّغ عالمها الذي أرادته راسخاً كاليقين. فهو لم يؤسس لمذهب “ثوري”، بل لنقد “ثوري” إن صحت التسمية. ولا يمكن للثورة أن تقنع بالمساءلة والتسامح وقاعدتهما التواضع وغياب الجزم. ولا يمكن لها أن تحتمل شعاراً فولتيرياً على شاكلة: “لنقل بشجاعة: ماذا أعرف”، أو لا أطلب منك “أن تفكر كما أفكر، بل أن تساعدني على التفكير”. ولا يمكن لها أن تركن إلى فكر يعلّم الشك، باعتبار أنه بالشك يمكن التعلم على التفكير، أي النقد. ألا تبدو سجالات اليوم كما لو كانت استمراراً للسجال الذي أجراه فولتير مع مجايله روسو بشكل خاص فلئن كان لفكر روسو، الذي امتدحه روبسبير زعيم الثورة وجلادها، طاقة تعبوية بينة، فإن فولتير يعلم المساءلة والتسامح، والسخرية مما يبدو كما لو كان عقلانياً وراسخاً. وكيف تحتمل العقيدة الثورية الشك، وهي التي تريد تأسيس عالم قائم على رسوخ اليقين وبغد مشرق لاشك فيه
ونحن نعبر الساعات الأخيرة من القرن العشرين، بتناقضاته واكتشافاته الكبرى وبربرياته، يبدو درس فولتير كما لو كان هو الدرس الوحيد الذي لم تتجاوزه الأيام وبالأصح وضعته في متناول وعينا الملتبس في الوقت الحاضر. فحين يفقد الناس صوابهم: حين يحتربون، يتعصبون لأساطيرهم، لعقائدهم، لجنسيتهم، وحين تصبح الكتابة ثرثرة، وتسود علاقات القوة فقط، يبدو فولتير ضرورياً بالتأكيد.
محمد حافظ يعقوب
موسوعة الإمعان في حقوق الإنسان الجزء الأول