(من لوتواك إلى نبوة الشنقيطي)
أو العنف لتوظيف الحركات الشعبية في خدمة الهيمنة الأمريكية
مرام داؤد
في خريف عام 1999 نشرت مجلة Foreign Affairs مقالاً، بعنوان: “امنحوا الحرب فرصةً” Give War a Chance للكاتب الأمريكي الإسرائيلي إدوارد لوتواك Edward N. Luttwak ، دعا فيه القوى الدولية المتنفذة -خصوصا أميركا- إلى الكفّ عن السعي إلى وقف الحروب في العالم الثالث! مطالبا بإعطاء الحروب فرصة لتعزيز الهيمنة الأمريكية في البلدان ذات الأهمية الاقتصادية والاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية. متذرعاً بدور الحروب في الوصول إلى سلام مستدام، يتحدث لوتواك في مقالته كيف أن تدخّل الأمم المتحدة وغيرها من أجل وقف النزاعات المسلحة كان السبب الرئيسي في إزمان وديمومة هذه الحروب. معتبرا بكل وقاحة وجرأة أن المساعدات الإنسانية بعد الحروب كانت كارثية وأبلغ مثل على ذلك الأنروا التي أصبحت مخيماتها بؤرة للتنظيمات المسلحة التي تحول دون اندماج الفلسطينيين في دول الجوار عبر المحافظة على مخيماتهم مع فكرة العودة (طبعا اليوم نشهد ترجمة هذه الفكرة في موقف ترامب-كوشنر من الأونروا وسعي الإدارة الأمريكية لقتلها عبر الحصار المالي). إلا أن الفكرة الأخطر في أطروحات لوتواك، والتي تبناها ديك شيني بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، لا تكمن فقط التمجيد للحرب باعتبارها أفضل السبل لوضع حد للنزاعات، بل وأيضاً تبسيط مفهوم الحرب لصالح اعتبار قوات حفظ السلام والتدخل الإنساني الأممي لوقف جرائم الحرب هو بعينه زعزعة للاستقرار. وفي هذا يقول:
“رغم أن الحرب شرٌّ مستطير، فإن فيها فضيلة عظيمة، وهو أنها يمكن أن تحل الصراعات السياسية، وتقود إلى السلام. ويمكن أن يحدث هذا حين يصبح المتحاربون مُنهَكين، أو حين ينتصر أحدهم نصراً ساحقاً. وفي الحالتين يجب أن يستمر القتال حتى التوصل إلى حل. فالحرب تجلب السلام فقط حين يتجاوز العنف المتراكم ذروته.” ومن هنا الخطأ المبدئي لمنظمة الأمم المتحدة التي لا تسمح للحروب “باستكمال مسارها الطبيعي” ففي حالة رواندا، حسب قوله، فإنه يرى أن التدخل الإنساني لوقف جرائم التوتسي أضر “باستدامة الحل في البلاد”! مشيراً بشكل شبه صريح إلى دور تشتيت وشرذمة الهوتو في جعل رواندا متماسكة.
من المعروف أن لوتواك هو مؤلف كتاب: “الانقلاب العسكري: دليل عملي” الذي تحول دليلا إرشاديا لوكالة المخابرات المركزية الأميركية (السي آي أي) في انقلاباتها العسكرية بدول العالم الثالث، وكتاب “الجيش الإسرائيلي” (1983) بالاشتراك مع دانيل هورويتس، ولد في رومانيا وتربَّى بين إيطاليا وبريطانيا، وخدم في الجيش الإسرائيلي، ثم انتقل إلى أميركا فتحول مستشارا في عدد من المؤسسات الأميركية الحساسة، منها مكتب وزير الدفاع، ومجلس الأمن القومي، ووزارة الخارجية، وقيادة الجيش الأميركي.
في يوم 24 أغسطس/آب 2013، كتب لوتواك مقالا في صحيفة (نيويورك تايمز) عن الثورة السورية تجاوز فيها حتى نظريته في “منْح الحرب فرصة”، حيث لم يكتف هذه المرة بالدعوة إلى إبقاء الحرب مستعِرة، بل دعا دعوة صريحة إلى زيادة تسعيرها، وتحويلها مَصْهرةً دمويةً عدَمية. في هذه المقال قام لوتواك بشكل ضمني بتوضيح مفهومه للسلام على أن المقصود منه هو حماية مصالح الولايات المتحدة في مقابل الاقتتال فيما بين أربع دول.
جاء مقال لوتواك في نيويورك تايمز بعنوان معبِّر هو: “في سوريا: تخسرُ أميركا إذا كسبَ أيٌّ من الأطراف” In Syria, America Loses if Either Side Wins وفيه كتب لوتواك: “إن الاستنزاف الطويل الأمد في هذه المرحلة من الصراع هو المسار الوحيد الذي لا يضرُّ المصالح الأميركية”، ثم ختم بنصيحة لصانع القرار الأميركي قال فيها: “سلِّحوا المتمردين كلما بدا أن قوات السيد الأسد في صعود، وأوقِفوا دعمهم كلما بَدَا أنهم سيكسبون المعركة”. ولم يكن لوتواكْ مجرد ناصح للإدارة الأميركية ومنظِّرٍ لها، بل هو يؤكد في مقاله –مُحقاًّ- أن ما أوصى به هو واقع الموقف الأميركي في سوريا.
قرأت مراكز بحث عربية وتركية عديدة مقالة لوتواك، وحذرت من أن أطروحة هذا “الباحث” تشكل خطراً كبيراً على المنطقة. بل الأنكد من ذلك أن أحد تلامذة القرضاوي (محمد مختار الشنقيطي، أستاذ الأخلاق (كذا!) السياسية في الدوحة) كتب عنها عدة مرات. ومع ذلك، كان معظم هذه المراكز يبحث عن مسوغات التسلح والعنف ومذهبة الحرب في سوريا ممجدين، كمثل لوتواك، بالحرب ومآلاتها في ازدهار الأمم. يتفوق الشنقيطي على لوتواك في رؤيته للجهاد (أو الحرب) عبر استدعاء العامل الديني المقدس إلى جانب التحول الطبيعي للديناميكية الاجتماعية في صناعة الحروب. فهل سقطت أشباه العقول في التبرير لأشباه المقاتلين في جعل سوريا أرض الجهاد والنفور؟
التفسير الوحيد الذي يعطيه الشنقيطي وغيره ممن قرأ لوتواك من الإسلاميين، تفسير يصعب علينا الرد عليه، فمعلوماتنا المتواضعة، تقول بأن الوحي انقطع عن البشر مع آخر الأنبياء، إلا أنه في عصر الاتصالات والشبكات الاجتماعية، نجح الإخواني الشنقيطي في تبادل الرسائل مع السماء، فتلقى أمرا بالخروج عن السلمية والتوقف عن مهاجمة اللوتواكية، لإعلان الجهاد في سبيل الله، وقد زف للأمة الخبر في مقالة عنونها من “الربيع المخملي إلى المفاصلة الجهادية”:
“لقد أردناه ربيعا مخمليا، وأراده الله مفاصلة جهادية، والذي أراد الله خير”…