لم تنجح البشرية بعد في تحديد التزام حقوقي فوق قومي في موضوع الجنسية، ومازال هذا المصطلح عصيّ التعايش مع فكرة العالمية. ورغم أن فكرة نزع الجنسية تعتبر سلاح الدمار الشامل لفكرة المواطنة الحديثة، ما زال هذا المبدأ حيا في معظم قوانين الجنسية في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين بل تعتلي صيحات من عدد من المسؤولين الأوربيين من أجل شمول “كل من هو مشبوه ضمنا” بالحالات التقليدية!. من هنا هشاشة الثقافة القانونية لانتماء الشخص لدولة، وضعف احترام القوانين للكرامة البشرية في عالم يعتبر الجنسية جواز المرور الأساسي لأهم حقوق الإنسان السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. بهذا المعنى تحمل أطروحات التوظيف السياسي والإنتخابي لموضوع الجنسية في أوربة هذه الأيام كل مخاطر تشويه وزعزعة العقد المواطني بين الدولة والأشخاص.
فقه المواطنة المغيبة
كلمتان لم تتوقف عندهما كتب السياسة في التاريخ العربي الإسلامي: الديمقراطية والمواطنة. فالعدل أس تنظيم الحياة في القرآن، والعقد أساس المعاملات الدنيوية كافة. لكن رسالة الصحابة لابن المقفع هي التي ستمهد للآداب السلطانية. لقد بدأت مبكرا ومنذ اغتيال الإمام علي بن أبي طالب، عسكرة القبائل وتقمص الغنيمة في الضريبة وجعل العقيدة وجبرها متراس احتكار السلطان في الكتابات السياسية الإسلامية، ومعها تأصلِ مفهومي الرعية والطاعة. فالسلطان في إيجاز بليغ لابن عبد ربه، زمام الأمور ونظام الحقوق وقوام الحدود. هذا هو استنتاج ابن خلدون أيضا في الملك: “إنما الملك على الحقيقة لمن يستعبد الرعية، ويجبي الأموال، ويبعث البعوث، ويحمي الثغور، ولا تكون فوق يده قوة قاهرة“.
لقد ارتبط مفهوم المواطنة في التاريخ العربي الإسلامي نظريا بالاعتقاد وعمليا بعدة عوامل منها تكوين السلطة والجيش. وقد بقي المفهوم التاريخي للمواطنة بهذا المعنى تفاوتيا سواء بين الأفراد الأحرار الذكور أو بين الأحرار والعبيد، المؤمنين وغير المؤمنين، النساء والرجال.. وبهذا تتشابه الحضارات الإغريقية والرومانية والصينية والعربية الإسلامية. بمعنى أنها تركت مفهوم المواطنة أسير الوضع العياني الملموس وأخضعت المفهوم للنسبية والهلامية بعيدا عن النصوص مقدسة كانت أو وضعية.
من الضروري التذكير بأن ضعف مفهوم المواطنة في الكتابات الفقهية يعود برأينا لأسباب ثقافية-تاريخية. ففي ثلاثية الخطاب السياسي الإسلامي أي السياسة الشرعية والفلسفة السياسية والآداب السلطانية، تغيب المواطنة بالمعنى المدني تعارضا (حال الكتابات الفقهية) أو تجاهلا (حال القراءات الفلسفية) وبكل الأحوال، ساد الاتجاه الاستبدادي الذي اعتبر الملك، وليس الإنسان، خليفة الله في بلاده، وفسّر تنظيم شؤون الحياة من الأعلى (أي اتساع صلاحيات الحاكم) لا من الأسفل (بمعنى مشاركة “الرعية” الفاعلة لا الطائعة). وقد تكفلت كتابات الآداب السلطانية بتدبير المقدس الذي يسمح بجعل النظام الملكي المطلق، المسمى في الأدبيات بالخلافة، نهاية التاريخ.
أعاد عصر التنوير الأوربي تعبير المواطنة للتداول، وبدأت عملية إعادة التفاعل مع التراثين اليوناني والروماني في إيطاليا مع ماكيافلي (1469-1527) Niccolo Machiavelli وفي إنجلترا مع جيمس هارينغتون James Harrington وجون ميلتون John Milton في منتصف القرن السابع عشر وقد تركا أثرهما في الثورة الأمريكية وبشكل خاص ما عرف بالهرينغتونية الجديدة. وقد جاءت العودة هذه لكلمة المواطنة كمعادل أساسي لمفاهيم جديدة مختلفة جذريا مثل الدولة-الأمة، البرجوازي المدني burgerliche، الوطنية والقومية الخ. أي جملة مفاهيم وضعية جمعت بين الضبابية والنسبية، تحت ظلال تعقيدات المعطيات المجتمعية الفعلية والثقافة السائدة،
شكلت المواطنة في القرن الثامن عشر موضوع نقاش في غاية الثراء في فرنسا. تعّرف موسوعة ديدرو Diderot – 1753 المواطن بكونه “عضو في المجتمع” ويحدد قاموس تريفو Trévoux في 1771 الكلمة بالقول” تعبير ذو علاقة بالمجتمع السياسي”. أما روسو (العقد الاجتماعي 1762) فيربط المفهوم بمعنى السيادة والطاعة للنفس، التحرر من دور الرعية وتمتع الأفراد بالحكم الذاتي. ومع الثورة الفرنسية ارتبط المفهوم بالجمهورية، باعتبار أن الهوية الجماعية التي تتشكل من مجموع المواطنين وحدها تملك السيادة داخل الدولة. وكان تعريف المواطن عند دستوريي 1793 “هو الوطني والسياسي في الممارسة”، لأن المواطنة فعل أكثر منها صفة، هذا الفعل مرتبط مباشرة بالمشاركة في الحياة العامة ومشكلات المجتمع. في حين ربط مشروع التأسيس للولايات المتحدة الأميركية منذ “إعلان فرجينيا للحقوق” 1776، بين فكرة الحقوق والاستقلال. هذا التداخل الجوهري بين الوطن والحقوق، المواطنة ومؤسسات الدولة الوليدة، الهوية الذاتية ورسالة الأمة، يعرّف صورة “النحن” والإنسان في منظومة حقوق وواجبات تنطلق من الشخص الأمريكي، فيما يجعل التعريف القانوني للمواطنة أولا وأخيرا المعيار والمرجع لتحديد طبيعة حقوق الإنسان على الأراضي الأمريكية. وهكذا، يعتمد البعض تصنيف المواطنة تبعا للحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية. باعتبار القرن الثامن عشر كان للمواطنة المدنية والتاسع عشر للسياسية والعشرين بداية تسجيل إنجازات حقيقية للنضال النقابي والاشتراكي بعد عقود وسمت النصف الثاني للقرن 19. ويمكن الأخذ بهذا التصنيف إذا اعتمدنا المعنى القديم لكلمة الحقوق المدنية الذي يركز على حق الحياة والأمن والسلامة الشخصية والمساواة أمام القانون وحرية اكتساب المعارف. من ناحية أخرى، لم تستطع التجربة السوفييتية أنسنة حقوق المواطنين ودمقرطتها. كذلك أفقدت دكتاتوريات بلدان الجنوب المفهوم معانيه السياسية والمدنية. وفي حين يتسع نقاش المواطنة ليشمل توفير الشروط الأساسية للمجتمع المدني والديمقراطية لا يتورع العديد من طرح سؤال هام: إن كان المواطن هو دافع الضرائب في نشأة المجتمع الرأسمالي، صاحب الورقة المسماة بالجنسية في الدول الغنية، فهل هو المستهلك المتلقي في عصر العولمة؟
كلما تعمّق المرء في دراسة التجربتين الفرنسية والأميركية والإشكالية السوفيتية، كلما شارك جاك زيلبربرج قولته “الممر من الحقيقة إلى النسبية يؤدي بنا، في نظم المعرفة الحرة والعقلانية إلى مبدأ الشك الذي يستجوب باسم الحكمة البناء الاجتماعي لحقل المواطنة، إن كانت المواطنة، بالنسبة للإنسان الممارس هي مساعد دولة القانون والديمقراطية التعددية ونقطة ارتكاز في انتظام الحقل الوطني، فهي بالنسبة للباحث، مصطلح تعسفي، متفرد، مثالي النمط، يهدف تحديدا إلى وضع ديكور لطيف لمشاريع سياسية مختلفة ولأنظمة سياسية متعددة”.
إن أية مقارنة للنظري بالوقائع تفتح الباب لطرح عدة أسئلة ذات انعكاسات مباشرة على الحقوق الإنسانية مثل:
– كيف يمكن للتفريد المتصاعد لمفهوم المواطنة السياسي أن يأخذ بعين الاعتبار مفهوم الجماعة والمصالح العامة للجماعات والأفراد بما فيه حقوقهم البيئية والاقتصادية والاجتماعية؟
– كيف يمكن لمفهوم المواطنة أن يخلق الانسجام السكاني لمجموع المقيمين في وحدة سياسية دون أن يلغي ذلك الطابع المتعدد الثقافات والمتعدد القوميات لهذه الوحدة
– ما هو دور المواطنة في تحجيم فكرة الشخص بغض النظر عن الجنسية والجنس، خاصة وأن حقوق المواطنة تأخرت للنساء وناقصة للأجانب في القوانين القومية؟
– هل يمكن الحديث عن مواطنة واحدة في عالم متفاوت وغير متكافئ؟
لقد غدت المواطنة ثقافةً حقوقيةً أساس، في مواجهة الرعية كثقافة تقليدية غير ديمقراطية.
وعندما نتحدث عن ثقافة الرعية فإنما نقصد
- منح الحاكم، الذي لا يسأل عما يفعل وتسأل رعيته عما لا تفعل، لحقوق وحريات كمكرمة منه لرعاياه.
- مراتبية السلطات وخضوعها للقوة التنفيذية- الأمنية.
- الركود المستنقعي ورفض المبارزة السلمية في الاختلاف.
- غياب التداول والمحاسبة.
في حين أن ثقافة المواطنة تتطلب قواعد منظمة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم في مقدمتها:
- كل شخص يتمتع بحقوق وحريات وعليه مسؤوليات
- فصل السلطات الثلاث ومراقبتها وتذرير الممارسة اليومية للسلطة عامة
- الدينامية المجتمعية عبر المشاركة وفاعلية السلطة المضادة والرابعة
- تأصيل مبدأ التداول ومبدأ المحاسبة
الجنسية ؟
لقد صعدت كلمة Nation لتصبح الجذر الأساسي لما ستقوم عليه حقبة تاريخية كاملة في تاريخ البشرية، بكل شعوبها ومكوناتها، اصطلح على تسميتها بحقبة الأمة والدولة-الأمة، ومن جملة مشتقات هذه الكلمة، تشكل كلمة Nationalité التعبير الأكثر قدرة على التحديد والملموس بشكل عياني في إطار وحدة سياسية ممركزة. وهو يعني، من حيث المبدأ، الوضع القانوني الذي يميز “الوطني” أو “القومي” أو ابن البلد عن الأجنبي، وقد ترجم هذا التعبير إلى العربية بكلمة تفترق عن ترجمة مشتقه الأصلي: الجنسية.
التجنس، الحصول على الجنسية، هو الانضمام إلى القوم، وهو في حد ذاته قبول وطني وعالمي بمبدأ يرفض نقاوة الجنس ونقاوة العرق ويقبل طوعيا منطق الاختلاف (سواء كان الاختلاف في الدين أو اللغة أو الجنس أو اللون .. ) . وهو يشبه الزواج المختلط عند قبيلة ربما كانت تحبذ الزواج الداخلي بين الأقارب لكن ليس لها إلا أن تقبل منطق الحياة الأغنى، كذلك يذكرنا بدخول عشائر وقبائل في جماعة اعتقادية-سياسية في المجتمع العربي قبل الرأسمالي. حيث من المعروف أن عشيرة جان بولاد الكردية مثلا احتمت بالموحدين الدروز في جبل لبنان ثم أصبحت كاملة العضوية، ومع الوقت صار لها دورا في الزعامة والقيادة (عائلة جنبلاط اليوم). وتعرف الجنسية في كتب القانون بأنها “رابطة قانونية سياسية تربط شخصاً ما بدولة ما مما يجعله واحداً من مواطنيها”، وهي رابطة قـانونية لأنها ترتب حـقوقاً وواجبات ينظمها دستور الدولة وقوانينها، وهي سياسية لأنها تحدد الجماعة السياسية التي تشكل شعب الـدولة كركن من أركانها إضافة إلى الإقليم والسلطة، بل ركنها الأهم.
تتباين قوانين الجنسية في العالم : بين الجنسية المأخوذة بالواقع في المصطلح البولوني (نارودوفسكي) أو بالحق (أوبيفاتيلستفو )، الجنسية المكتسبة والجنسية الممنوحة، الجنسية المرتبطة بدين الأم في قانون العودة الإسرائيلي-اليهودي، الجنسية المعطاة بسبب الزواج أو القرابة أو التبني، جنسية الأصول والفروع في العائلة لتوحيد شملها، والجنسية الشرفية الخ. نحن أمام خصوصيات ثقافية سياسية مقولبة في نطاق ديناميات المصالح
لكن سواء كانت الجنسية تعتمد حق الدم Jus sanguinis أو حق الأرض Jus soli فهي قضية وطنية بحتة تخضع للتعريف العام لسيادة الدولة، ويمكن القول أن النص الوحيد غير الوطني حول الجنسية (معاهدة لاهاي الموقعة في 12 أبريل (نيسان) 1930 ) تؤكد على هذه النقطة:
“- يعود لكل دولة أن تحدد بتشريعاتها الخاصة من هم وطنيوها.
– فقط هذه التشريعات لها الحق في تحديد إذا ما كان الفرد من رعايا الدولة أم لم يكن.”.
معروف أن قانون الجنسية يتأثر بشكل شبه دائم بالخصوصيات الثقافية-الاجتماعية وأنه أيضا مقولب في نطاق دينامية مصلحية فالمملكة العربية السعودية التي أقامها الملك عبد العزيز كانت تسمي وزراء عرب من خارج الجزيرة. أما أبناء المؤسس، الذين تأثروا بالثروة النفطية، فقد شرعوا لجعل الجنسية من أصعب ما يمكن الحصول عليه في المملكة في أنموذج للانغلاق والنبذ. وترفض إسرائيل مبدأ الأرض والدم لعدد كبير من الفلسطينيين غير اليهود، أي أصحاب الأرض بالمعاني الحقوقية والقانونية الدولية المختلفة، لتقر بمبدأ العودة إلى أرض إسرائيل لكل يهودي، حيث يصبح الدين المرجع الأساسي لمفهوم الجنسية وإن لم يكن الوحيد. يذكر الإسرائيلي اراد مالكان بأنه “يمكن لمواطن فرنسي أن يعتنق أية ديانة دون أن يهز ذلك جديا “هويته الفرنسية” (التي ليست كاثوليكية بالضرورة) أما بالنسبة لليهودي حتى لو كان علمانيا وصاحب فكر حر، فالمسألة مختلفة، واعتناق دين آخر مسألة خارجة عن فكره”.
من الضروري الإشارة لعدد من المفكرين الإسلاميين، مثل الدكتور محمد سليم العوا، الذين يعتبرون التقييد والتحديد في قضايا الجنسية، خاصة منها ما يتعلق بحقوق المرأة في الجنسية وأولادها، لا تنسجم بحال من الأحوال مع الدين الإسلامي القائم على قضية المساواة والتيسير والتسهيل في موضوع الجنسية.
لكن هذا التأثر لم يعد في المطلق وثمة ضوابط له، على الأقل من الناحية النظرية القانونية في كل دولة التزمت بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
في الأدبيات الأمريكية، تستعمل كلمةcitizenship (مواطنة) مكان كلمة nationalité (جنسية) في الكتابات الفرنسية التي تقيم عادة فصلا واضـحا بين الجنسية والمواطنة. وإن كان بإمكاننا أن نقول مع اوبنهايم ولوترباخت: “جنسية فرد ما هي أن يتمتع بالانتماء إلى دولة، أي مواطنيته” .
بالنسبة للمدافع عن حقوق الإنسان، تبقى الجنسية، مهما كانت القيم والمعطيات المحددة الإيديولوجية أو الإختلافية للكلمة، مصطلح “إغلاق” يحدد تخوم (أو ينفي من) الاشتراك في الفعاليات المجتمعية والمدنية والسياسية جزئيا أو كليا. ويأتي غموض هذه الكلمة من كونها في الحياة المعاشة، التعبير عما يمكن اعتباره النطفة المؤسساتية للقومية/أو الوطنية من جهة وإمكانية منظومة سياسية على جعل القيم الديمقراطية للتأقلم تتقدم في مجتمع ما على حساب كيان مغلق “متجانس”، من جهة ثانية.
الالتزامات الدولية
يعتبر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أول نص لحقوق الإنسان يدافع بوضوح عن حقه في التمتع بجنسية، حيث تبنت المادة 15 مبدأين أساسيين: الأول، حق كل فرد بالتمتع بجنسية ما، والثاني، عدم جواز حرمان شخص من جنسيته تعسفا أو إنكار حقه في تغييرها:
1- لكل فرد حق التمتع بجنسية ما.
2- لا يجوز تعسفاً حرمان أي شخص من جنسيته ولا من حق تغيير جنسيته.
وقد أقر المجتمع الدولي عام 1954 اتفاقية بشأن خفض حالات انعدام الجنسية وقد جاء في المادة 1 من هذه الاتفاقية : “تمنح كل دولة متعاقدة جنسيتها للشخص الذي يولد على إقليمها ويكون لولا ذلك عديم الجنسية..”. بدأ نفاذ الاتفاقية في 1960. ثم تم اعتماد الاتفاقية الخاصة بخفض حالات انعدام الجنسية في 1961 التي دخلت حيز التنفيذ في ديسمبر /ك1 1975 وتتلخص أهم أحكامها بالأتي: يطلب من الدولة المتعاقدة أن تمنح جنسيتها للشخص الذي يولد في أراضيها والذي لولاها يكون عديم الجنسية، ويجب منح هذه الجنسية أولا بحكم تنفيذ القانون لدى الولادة، ثانيا بناء على طلب يقدم إلى السلطة المختصة. إلا أنه يسمح للدولة المتعاقدة أن تخضع منح جنسيتها لشروط معينة.
أ – بحكم القانون لدى الولادة.
ب- بناء على طلب يقدم إلى السلطة المختصة … الخ.
وقد جاء في المادة 7 من اتفاقية حقوق الطفل التي صدقت عليها حتى اليوم كل دول العالم باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية والصومال:
1- يسجل الطفل بعد ولادته فوراً ويكون له الحق منذ ولادته في اسم والحق في اكتساب جنسية ويكون له قدر الإمكان الحق في معرفة والديه وتلقي رعايتهما.
2- تكفل الدول الأطراف إعمال هذه الحقوق وفقاً لقانونها الوطني والتزامها بموجب الصكوك الدولية المتصلة بهذا الميدان، ولا سيما حيث يعتبر الطفل عديم الجنسية في حال عدم القيام بذلك.
كذلك أكدت المادة 8 من هذه الاتفاقية على هذا الحق.
أي أنه من الناحية النظرية، أصبح حق الطفل في اكتساب جنسية حقا ثابتا في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان منذ عشرين عاما، كذلك واجب الدول في تقليل حالات الحرمان من الجنسية للبالغين باتجاه إلغائها.
يمكن القول أن أحدث وأفضل نص يتعلق بالجنسية حتى اليوم هو الإتفاقية الأوربية حول الجنسية (1997)، ورغم أخذها بعين الإعتبار مبدأ تخفيض حالات انعدام الجنسية بشكل جدي، إلا أنها تترك نافذة للسيادة الوطنية في قضية الجنسية أسمتها “أخذ المصالح المشروعة للدول والأشخاص بعين الإعتبار”.
الجنسية في القوانين والممارسات الوطنية
منذ ولوجها الثقافة السياسية-الإدارية، والجنسية موضوع قانون وطني خاص بها. وقد دخل هذا التقليد العالم الإسلامي بشكل هام مع صدور قانون الجنسية العثماني رقم 19 كانون الثاني 1869. كذلك فعلت الدول الاستعمارية في مختلف مستعمراتها، فبعد أربع سنوات من دخولها سورية، أصدر المفوض السامي القرار رقم 2825 مكرر 30/08/1924 المتضمن إثبات الجنسية السورية بملء الحق للرعايا الأتراك. وصدر قانون الجنسية القطري في عام 1961، في حين كان الموضوع أكثر تعقيدا في الجزائر التي اعتبرتها الدولة المستعمرة جزءا من فرنسا في حين لم تمنح حق الجنسية لمسلميها، أي للأغلبية الساحقة في البلاد. وقد صدر في سورية في أقل من ربع قرن من الإستقلال خمسة قوانين للجنسية وتعديل لأحدها، ليكون الربع الثاني أكثر استقرارا من الناحية القانونية. ويمكن القول أن موضوع الجنسية من الملفات الشائكة في عدد هام من البلدان العربية، فحتى اليوم لم تحل قضية المحرومين من الجنسية نتيجة لإحصاء 1962 في سورية وأغلبيتهم الساحقة من الأكراد، وتتعامل دولة الكويت مع “البدون” بإسلوب سلحفاتي وحذر شديد. في حين استجابت السلطات القطرية لمساعي اللجنة العربية لحقوق الإنسان مع اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في قطر في التراجع عن حالة سحب الجنسية من 5266 قطري في أكتوبر/تشرين الأول 2004 ولم يبق سوى 400 حالة تقريبا عند إعداد هذه المحاضرة.
لم تكن مسيرة الجنسية سهلة بل مرت بمنعطفات وسقطات غير قليلة، ولو أخذنا صفحة من التجربة الفرنسية تعرض لها عصام التكروري وباتريك فيل نجد أنَّ فرَنسا طبَّقت ما بين أعوام 1848 و 1945 التجريد من الجنسية كإجراء عقابي على الفرنسيين المُدانين بتجارة الرقيق. و في عام 1915 وإبَّانَ الحرب العالمية الأولى أصدرتْ فرَنسا قانوناً قضى بتجريد حاملي الجنسية الفرنسية والألمانية الذين اختاروا القتال لجانب الألمانْ من الجنسية الفرنسية. وعلى أثر صدور قانون 10 آب 1927 قامت فرنسا بحملة تجنيس واسعة النطاق لمواجهة النمو السكاني الألماني، تضمنَ هذا القانون – وبناءاً على طلب اليمين الفرنسي- بنداً يسمح بتجريد الأجانب من الجنسية الفرنسية في حال انتهاكهم لمصالح الدولة الفرنسية. بالرغم من ذلك ظلّ التجريد إجراءاً استثنائيا فمن بين 260000 أجنبي تم تجنيسهم مابين أعوام 1927 و1940 سُحِبَت الجنسية من 16 مُتَجَنِساً فقط.
وإبان الاحتلال النازي، قامت حكومة فيشي بإعادة النظر بجميع عمليات التجنيس التي تمّت بدءاً من عام 1927 وذلك على ضوء قانون 14 تموز الصادر في ألمانيا النازية والذي أتاح مراجعة عمليات التجنيس التي عرفتها ألمانيا ابتدءاً من عام 1918. في تلك الفترة تركزت عمليات التجريد من الجنسية في فَرَنسا على اليهود والجانحين من أصول أجنبية، وبالنتيجة، تمَّ بحلول عام 1945 سحب الجنسية الفرنسية من 15000 شخص من بينهم 7000 يهودي. و بالتوازي مع ذلك استعملتْ حكومة فيشي إجراءَ التجريد من الجنسية كسلاحٍ للثأرِ من خصومها السياسيين وبالنتيجة جُرد 446 فرنسي من جنسيتهم و كانَ الجنرال شارل ديغول على رأسهم. وفي الحقبة التي أعقبت التحرير عادت فَرَنسا للعمل بقانون 10 آب 1927 وتمَّ ما بين 1947 و 1953 تجريد 479 مُتَجَنسا أجنبيا من الجنسية الفرنسية بعدما تمَّتْ إدانتهم بالعمالة للنازي.
لا يمكن القول أن هناك قارات تنجو من الانتهاك الجسيم لحق الإنسان في التمتع بجنسية. ففي أوربة في 2008 ما يزيد عن 640 ألف محروم من الجنسية. وقد كشف تفتت الإتحاد السوفييتي عن النتائج المؤلمة لتهجير السكان الروس إلى مناطق عدد من القوميات في الإتحاد. كذلك جرت عملية غسل دم بشعة وملوثة بالجرائم في قضية إعادة رسم التكوينات السياسية لحقبة ما بعد يوغسلافيا. وكان لتشكيل لجنة دولية من أجل تحديد الجنسية في البوسنة والهرسك، وقيام هذه اللجنة بنزع الجنسية عن أكثر من 400 شخص معظمهم متزوج من بوسنيات وله أطفال يحملون جنسية البلد، أن وضعت من جديد على الطاولة قضية نسبية الجنسية ونسبية مفهوم دولة القانون وأيضا نسبية مفهوم السيادة الوطنية حيث الدولة الضعيفة لا تملك القرار لوحدها لمناقشة هكذا مواضيع في حين الدولة القوية لا تسمح لأحد بالتدخل في هكذا مواضيع؟
يمكن القول أن المادة 25 من القانون المدني الفرنسي تشكل تكثيفا لأسباب نزع الجنسية عن مكتسبيها منذ أقل من 15 عاما حيث نجد:
- حكم قضائي لجريمة أو جنحة كبرى تشكل خطرا على المصالح العليا للأمة أو الإرهاب
- جرائم الفصل الثاني من قانون الجنايات (خيانة عظمى، تجسس..)
- تقديم خدمات أو معلومات لدولة أجنبية تؤثر على البلد
- الخدمة الإلزامية وواجباتها (لا نجده حيث ألغيت الخدمة الإلزامية).
يمكن ترجمة الفهم الحقوق إنساني لقضية الجنسية عبر عدة مؤشرات. منها مدى تمتع المواطن بحقوقه الدستورية المعلنة وخروج الأشخاص من حالة القاصر في الفعل المدني، أي مبدأ المشاركة كأساس لممارسة الحقوق والحريات. وتعطي آلية نزع الجنسية أو منحها فكرة عن مدى تقدم البلد ودمقرطة مؤسساته واحترام إدارات الدولة والسلطة القضائية فيه. فثمة دول لا تترك للسلطة التنفيذية وحدها القرار في مسألة نزع الجنسية بحيث يكون مجلس الدولة والقضاء الأعلى حكما لتأكيد أو رفض هكذا قرار، في حين تعطي حكومات أخرى هذا الحق لوزير الداخلية فيها.
أما قضية المواطنة، بالمعنى السياسي والمدني الأقرب للتعريف الفرنسي، فهي التزام مشترك بين المواطن والدولة يتعدى الحصول على أوراق الجنسية إلى ممارسة دور المواطن في الحياة العامة. وبهذا المعنى، تشكل ثقافة المواطنة خطوة أساسية نحو الإندماج والتماسك الداخلي، ولكنها أيضا بقدر ما تكون خارج المنطق الشوفيني والإنغلاقي، تفتح الباب لمبدأ كل إنسان مواطن.
المواطنة- الجنسية والحقوق الإنسانية
زرعت الحالة الاستثنائية التي تبعت أحداث 11 سبتمبر 2001 نعش التقدم الحقوقي لسنوات بفرضها علوية مفهوم الأمن على الحرية، والمصلحة القومية على الحقوق، ودولة البوليس على دولة القانون. المواطنة كانت أولى الضحايا على الصعيد الوطني. حيث لم يعد امتلاك الأشخاص للجنسية بذي معنى في ظل أشكال التمييز والإقصاء والحكم المسبق على جماعات متهمة سلفا لانتمائها الديني أو القومي أو لجمعها بين الإنتماء وجريمة حق عام أو ممارسة شعيرة خاصة.
العقد السياسي-المجتمعي المسمى بالدستور لم يعد في أي بلد في العالم باستثناء الفاتيكان، المرجع الوحيد لثقافة المواطنة والتزاماتها وتقدمها الدينامي في الدولة والمجتمع. فهناك إيديولوجيات مغلقة تحمل في صميمها مقاومة المفهوم الدينامي والمتفاعل للمواطنة، وهناك بالمقابل الثقافة النقدية والبرامج الحقوقية والسياسية والالتزامات الدولية في القانون الدولي لحقوق الإنسان والعهود الإقليمية والوطنية. وأخيرا وقد أقول أولا : هناك الممارسة. وعلى هذا الصعيد المواطنة هي المعطى الأهم في القاموس السياسي والحقوقي الحديث الذي لم يتمكن أحد بعد من تأميمه.
فالمواطنة ليست “فاست فود” أو منتج ليبرالي جديد أو برنامج سياسي Light، فهي تحتاج إلى جهد ثقافي ومدني كبير محصن بروح المتابعة والعمل الطويل النَفَس واعتياد زراعة النخل وليس الفجل.
كما أن من الضروري في عصر عولمة النخب المالية التي تسعى لجعل الاستهلاك المشهدي ثقافة سائدة، أن ينجح أي مشروع مواطني في الدخول إلى قلوب وعقول الشبيبة لأنها وحدها قادرة على منحه حق التجذر المجتمعي.
فمن الملاحظ أن عودة وضع قضية الجنسية ومنحها ونزعها على جدول أعمال قطاعات يمينية متطرفة أو محافظة جديدة نجد ردة واضحة على نضال أكثر من قرن من أجل تسهيل قواعد منح الجنسية وزوال فئة المحرومين والبدون. ففي أنحاء مختلفة من الولايات المتحدة تتعالى أصوات تطالب بإلغاء التعديل الدستوري رقم 14 الذي يقضي بمنح الجنسية الأمريكية تلقائيا لأي طفل يولد داخل الحدود الأمريكية. أي في تراجع عن مكسب يعود إلى عام 1898 تاريخ حق منح من يولد على الأراضي الأمريكية الجنسية حتى وإن ولد لأبوين لا يحملان الجنسية لأمريكية بقرار من المحكمة العليا. وفي الأول من تموز/يوليو 2010 قامت الحكومة الفرنسية بإحياء إجراء إداري طُبق إبان الحُكم النازي وأعطى الحق لعمدة كل مدينة برفض التجنيس الممنوح للأجنبي طبقاً لأحكام قانون الجنسية. وفي 30 تموز 2010 أعلنَ ساركوزي بطريقة غير مباشرة أنَه يريدُ إحياءَ الفقرة الخامسة المُلغاة من المادة 25 من القانون المدني وبشكلٍ يسمح بتجريد المُتَجَنس من الجنسية الفرنسية حال الإقدام على الاعتداء على حياةِ رجلِ شرطة أو أي مكلف بخدمةٍ عامة، كما ودعا لوقف العمل بالنصوص القانونية التي تسمح- ومنذ عام 1889- للطفل المولود في فَرَنسا لأبويين أجنبيين بالحصول بشكل تلقائي على الجنسية الفرنسية بإتمامه سن الثامنة عشرة من العمر الأمر الذي قد يُجبر سنوياً نحو 30000 فتى من أصولٍ أجنبية أن يثبتوا براءتهم مما يحرمهم من حقهم بالجنسية. الأمر الذي استنفر منظمات حقوق الإنسان والأحزاب اليسارية وعدد من رجال الدين الذين نظموا 120 تظاهرة في فرنسا في الثالث من سبتمبر 2010 احتجاجا على هذا النكوص الأخلاقي والحقوقي في قمة السلطة الفرنسية. وتلعب المحاكم الدستورية العليا ومجالس الدولة والمحكمة الأوربية دورا مفرملا لهذه السياسة المدمرة لمفهوم وجوهر المواطنة. فقد أصدرت المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان في 22 نيسان 2010 قراراً يدين سلوفانيا لرفضها منح الجنسية للعديد من مواطنيها بعد الانفصال عن يوغسلافيا، ورأتْ المحكمة بذلك انتهاكاً للمعاهدة الأوربية لحقوق الإنسان لعام 1950 التي تُحَرِّمُ التجريد التعسفي من الجنسية والرفض التعسفي لمنحها. وقد رفض مجلس الدولة الفرنسي – و مازال حتى لحظة إعداد هذه المداخلة- تنفيذ الحُكم الصادر بالتجريد إذا لم يكن للمحكومٍ عليه جنسيةً خشية تحوله لعديمَ الجنسية.
في المجتمعات التي تعاني من ردود الفعل الكيدية والثأرية على جرائم وقعت وحقوق سلبت ومنظومة فساد استأصلت واستفراد بالقرار وحكر قائم للثروة والثورة، في مجتمعات أصبحت تصفية الحسابات الذاتية تنال مشروعيتها من لا عقلانية التعسف. واجتياز الحدود نحو المجهول حلما للطاقات الواعدة، والقبيلة ملجأ للطاقات الصامدة، ثقافة المواطنة هي التأمين المجتمعي الوحيد ضد أمراض نقص المناعة الذاتية. وإعطاء هذه الثقافة حقها هو أهم صمام أمن ضد العنف.
بعد مآس كبيرة وإحباطات وتراجعات أكبر، صار من بديهيات الثقافة المدنية التأكيد على أن الدولة لا يمكن أن تمثل الناس في كل زمان ومكان وقضية، وأن المجتمع الذي سبق الدولة وصنعها قادر على البقاء خارج فضائها بأشكال فردية أو جماعية، تلقائية أو منظمة. وأن الحركة المدنية ليست وحسب أداة بناء لمجتمع قوي، وإنما أيضا لدولة غيبتها السلطة، ولأحزاب تكلست أو تكاد ولجمعيات تحتاج للهواء الطلق لكي تعبر عن نفسها وعن حاجات الناس بشكل أفضل.
لا تبنى المواطنة من فوق كما أنها لا تخضع لقوانين الاستيراد والتصدير، يوجد ثقافة عالمية مشتركة في المواطنة وتجارب محلية أنجبتها الظروف الخاصة بالشعوب والبلدان. من هنا ضرورة خوض معركة التدريب اليومي على ثقافة المواطنة في عمق الحياة اليومية ومن المعالم المشرقة في الثقافة المحلية معرفية كانت أم دينية ومن الإخفاقات والتراجعات والأوجاع المجتمعية.
لا يمكن قراءة وضع المواطنة ومفهومها وثقافتها العامة السائدة بنفس الطريقة في كل البلدان العربية. المواطنة في دول الخليج ابنة وضع يذكرنا بمواطني أثينا، في السعودية الملك أساس الحقوق والدين غطاء الملك، في اليمن يتوقف الحق في المواطنة عند الحق المشترك في تخزين القات، في سورية المواطنة حكر على الخطابات الحماسية أما في تونس فهي تجميد الحقوق الفردية والجماعية في ثلاجة الدكتاتورية الباردة. أما في المغرب فيتكفل المخزن بشراء حقوقيين يحدثوننا عنها.
في أزمنة التحدي والمواجهة، يشكل الأمن الإنساني أرقى أشكال حماية المجتمعات. هذا الأمن يتطلب القرع السلمي على أنياب الحاكم لترويضها على المشاركة، ضرورة حماية الأقوى للأضعف وقبول المركز بالأطراف واعتبار احترام الآخر عماد احترام الذات..
ثقافة المواطنة ليست حلا سحريا ولكنها عتلة تسمح بفضاء ضروري جديد يشارك فيه كل من قبل بمناهضة العنف والقسر والظلم والاستبعاد من أجل نهضة جديدة تجمع الأنا والنحن.
في هاجس بلورة “مواطنة جديدة” لا مناط عنها ونحن نعاني التسلط بأشكال تجعل من المواطنة بأكثر تعبيراتها اختزالا، حلما لكل شخص في مجتمعاتنا العربية و/أو الإسلامية. لم تكن المواطنة يوما ابنة نص مكتوب، ومن هنا الإصرار على موضوعة كل إنسان مواطن لأن المؤشر النظري والأخلاقي والحقوقي الوحيد المشترك في غياب المشتركات، هو ارتقاء البشرية في حدودها الراهنة وتكويناتها السياسية إلى مستوى الحقوق الاسمية الموحدة للبشر. بتعبير آخر، صيرورة كل الأشخاص مواطنين.
هيثم مناع
2010