كيف يمكن تفسير حالة التمزيق العفوي والسريع لمراحل الركود الطويلة المسماة استقرارا والتي أصابت العديد من المدن العربية في الثلاثين عاما الماضية ما هي أسباب هذه الانفجارات البشرية وما هي نتائجها على الحريات الأساسية وحقوق الإنسان
من الصعب إعطاء إجابات قاطعة في موضوع جد معقد رغم التلقائية المفرطة التي تشكل الأساس في وجوده. فهذه الظاهرة شبه غائبة في حالات الانفتاح الديمقراطي، وتأتي عادة بعد حالة إدمان تسلطية في ظروف أحكمت فيها أجهزة الأمن قبضتها بشأن كل تعبير منظم علني أو ممنوع. فالمنظومة التسلطية تنجب عبر نموها المكبلات الأمنية لقدرات التراكم الطبيعي في المجتمع، هذه المكبلات تعمم حالة الاستعصاء المجتمعي الذي يشبه الاستعصاء العسكري، حيث السلاح القادر على إطلاق النار يتحول إلى قطعة فولاذية صماء لا تعمل في الأوضاع العادية، وعندما يعبث الضابط بها يصبح من غير المستبعد حدوث الانفجار. الفارق بين قطعة الفولاذ والمجتمع يكمن في إمكانية الأخير على الإنجاب.. وفي هذه الحالة تنشأ وتترعرع أجيال جديدة أتلف قمع الأهل وإفقار وعسف السلطات عمر الطفولة عندها، وتم إلغاء سن المراهقة باغتيال ملكة الحلم والخيال عند شبيبتها، ولم يعد عند شاب لم يصل بعد إلى سن التصويت أو الزواج ما يخسره، فهو على هامش مشروع السلطة وعلى هامش مشروع الحياة. صلته بالجيل الذي سبقه قائمة على مبدأي التنافس والعداء وعلاقته بمشاريع وممارسات الأهل تأخذ على الأغلب طابع الازدراء.
يصعب، بل من غير المفيد أن يقوم الكاتب أو النشيط بالنظر من فوق إلى هذه الظاهرة التي تذكرنا “بكيلا يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم” التي يطالعنا فيها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. كذلك لا معنى مشاركة الجلاد في بيانات الإدانة، فنحن أمام جماعات بشرية مستثناة من عالم الحقوق تتمرد على سلطات خارجة عن القانون الذي فبركته بنفسها. يصف مصطفى خياطي هذه الظاهرة بالقول: “العصيان هو دائما فعل الذين تحكم عليهم المنظومة (السستام) الاجتماعية السائدة بالصمت بعد نبذهم من شبكتها الحيوية. لقد كان للمجتمعات القديمة، على الأقل، فضل إطعام السوقة فيها. أما المجتمعات المتخلفة في القرن العشرين، فهي محكومة بالانتاج الخصب لجماهير السوقة وزخها بالمدفع الرشاش بشكل دوري. إن وجود جماهير السوقة هو الدليل الدائم على الطبيعة اللا إنسانية للمجتمعات، فالبرجوازيون في البلدان المتخلفة لا يحتاجون إلا إلى عدد محدود من العبيد، وليس ملاك العبيد بحاجة إلى أن يكونوا أحرارا. فحتى يكونوا أحرارا، حتى يكونوا أسيادا لملكياتهم، عليهم أن يقبلوا دور شماشرجية (وصفاء) الدولة، دولتهم. إن الصمت التوتاليتاري هو القانون الذي يحكم الجميع، وليس بإمكان أي كان أن يقول ما يريده، لا العبيد الذين يريدون أن يصبحوا بشرا أحرارا ولا الأسياد الذين لا يحتاجون إلى بشر لتمثيلهم (قطعان صامتة، طائعة، مستعبدة لبطنها). ومن أجل هذا فإن كل محاولة “دمقرطة” تنتهي بهيجان يذكر كل من يحاول النسيان، بأنه في هذا النوع من التنظيم الاجتماعي تشكل الشراسة ضرورة والإنسانية استحالة. إن وضعا شرسا ولا إنسانيا لا يمكنه البقاء دون الشراسة واللاإنسانية، والهيجان هو في الوقت نفسه، تعبير عن هذه الشراسة واحتجاج ضد اللاإنسانية العمل الذي يطالب عبره المنبوذون في الجماعة اللاإنسانية بإعادة بناء الجماعة الإنسانية”.
إن كل عظمة مركبة ومضخمة للسلطان في وضع كهذا تستتبع بالضرورة تقزيما قسريا للجموع البشرية الراضخة لحكمه. هذا التقزيم المتسارع والضروري لتثبيت هالة السلطة وهيبتها يضيق تباعا الحد الأدنى الضروري للتعرف على الذات والبحث عن أشكال تحقيقها بصيغ خلاقة حاسرا خيارات الرعايا بين الطاعة المباشرة والهزيمة المعلنة، وفي الأخيرة، تأبى الأنفة الشرقية إلا أن تعلن عن هزيمتها بوصفها انتصارا.
وتتجسد الهزيمة على أرض الواقع في صيغ الانكفاء إلى آخر معقل يصعب على السلطة اختراقه، كون اختراقه يزعزع المفهوم البطركي للأب الأكبر للأمة. ونقصد بهذا المعقل الروابط العضوية للعلاقات بين البشر، أي العودة إلى العائلة والعشيرة والطائفة بوصفها الملجأ الأكيد والضمان الاجتماعي الذي لا يمس أمن الدولة والعلاقة بين الإنسانية التي لا يحظرها قانون الطوارئ. هنا ينحسر مفهوم النحن من مستوى الأمة إلى حدود العشيرة ومن المجتمع المدني إلى التجمعات القائمة على علاقات إنتاج الإنسان.
إلا أن هذا الكائن المخنوق المحاصر يحمل في جعبته لأسرته كل أمراض حكامه بشكل مصغر، إنه يعود إلى البيت والحي بذخيرة الاستبداد لا بطموح الحرية بلوثات الهرب الغيبي لا برؤى البناء الجديد، وبرغبة البحث عن مجال “مشروع” في نظر قامعيه لتفجير شحنات العدوانية في أعماقه، مكررا ما فعله السلطان على صعيد المجتمع في المجال الذي تركه له السلطان لتكرار المأساة في خلاياه. إن الممارسة المزمنة لكل وسائل العنف من فوق، تؤدي حكما إلى إعادة إنتاج العنف في الشبكات المجتمعية القاعدية وتغذي كمون العنف عند مكوناتها وفيما بينها.
وتعزز التشكيلة الاقتصادية ـ الاجتماعية التابعة هذا الاستعصاء الاجتماعي ـ السياسي كون السلطة السياسية هي رب العمل الأكبر في المجتمع وكون قوامها يكمن في تضخم البيروقراطية الرثة بشكلها العسكري ـ الأمني والمدني الحزبي والإداري. فالإنتاج الواسع للعناصر الطفيلية اللازمة لاستمرار السلطة ومدى سيطرة البيروقراطية الرثة على مصادر الإنتاج يتناسبان طردا مع الإنتاج الواسع للمنبوذين وعكسا مع القدرات الانتاجية المادية الخلاقة في المجتمع. وبذلك يلاحق المنبوذ في المنظومة الاجتماعية السياسية في لقمة عيشه ليجد نفسه خارج أطر السلطة وسوق العمل بآن.
من هنا تتقاطع هبات المدن المعاصرة مع العيارين والشطار في القرون العربية والاسلامية الوسطى في مشتركات الاستبداد التاريخي والمعاصر، وتفترق عنها في عجز التكوينات الدولانية الصغيرة المعاصرة عن استيعاب المنبوذين الذين عمدت أشكال الخلافة التاريخية على امتصاصهم في التعبئة العسكرية نحو العدو الخارجي. فحروب الفقراء المدمرة، أهلية كانت أم دولية، لا تجد حلا لأي من معضلات المجتمع وتنجب الدمار الشامل والهزيمة الجماعية.
يقول انطونيو غرامشي في حديثه عن التلقائية: “بوسعنا القول أن عنصر التلقائية هو من خصائص “تاريخ الطبقات” بل تاريخ العناصر الأكثر هامشية والأكثر محيطية في هذه الطبقات والذين لم يبلغوا بعد الوعي الطبقي “من أجل ذاته” وبالتالي لا يتفطنون إلى أن تاريخهم يمكن أن يمثل أية أهمية تذكر، وعليه، فليس من سبب يستدعي ترك أية آثار مقنعة”.
تنبثق التلقائية من رحم المجتمع لتعبر عن جملة مخاضات مرحلة حمل طويلة تكونت فيها أجنة العصيان وفقا لمعطيات الحياة نفسها. وهنا تكمن نقطة قوتها، باعتبارها تشكل اللغة المشتركة المفهومة لأكثر الفئات الاجتماعية قهرا ونبذا. وهنا أيضا تكمن نقطة ضعفها بوصفها قد تغذت بالضرورة من الحبل السري الاجتماعي بشكل إلزامي. وفي ترجمة ملموسة فإن فورات المدن هي حالة عصيان تلقائية غير منظمة تأتي في الغالب كرد فعل مباشر على إجراء يمس مباشرة الجماهير المسحوقة في المجتمعات المحيطة التابعة. إن الابتعاد المتزايد للشبيبة والمنبوذين عن الشبكة المجتمعية يأخذ طابعا سلبيا بادئ الأمر ولا يتجسد في مقاومة إيجابية، وهو يتحول إلى حالة هيجان عندما لا تكتفي السلطة باستنكارها لوجود السوقة ونبذهم بل تعمد إلى إيقاظهم من كبوتهم بملاحقتهم في فتات عيشهم (القاهرة، الدار البيضاء، تونس، الجزائر، معان إلخ) أي بتحميلهم وحدهم وزر أزمتها الاقتصادية. هنا تخرج الجموع من سلبيتها وروتين قهرها اليومي، لتكسر حاجز العزلة التي تعيشها فيما بينها وفي صلتها بالمحيط العام، ولا تلبث كل شلة أن تدرك أنها ليست وحدها وأن العدوى قد شملت عالم المحرومين. إن الطابع المطلبي الملموس والمحدد لانطلاقة فورات المدن لا يعني بحال انحسارها في سقفه، فالهتافات تشمل السلطة والمال والفساد والعناصر المسؤولة عن بؤس الجماعات الثائرة وتشمل ممارساتها تحطيم وحرق رموز هذه العناصر (واجهات المحلات الفخمة، مراكز الشرطة، السيارات الخاصة، الفنادق السياحية..). وتعطي شعارات الحركة فكرة عن التبلور السريع لخطاب مفهوم وشامل: مش كفايا لبسنا الخيش، جايين ياخدوا رغيف العيش، يا أهلينا يا أهلينا ادي مطالبنا وادي أمانينا، أول مطلب ياشباب، حق تعدد الأحزاب، ثاني مطلب ياجماهير، حق النشر والتعبير، وثالث مطلب يا أحرار ربط الأجر بالأسعار…
الرصاص هو الرد الوحيد الذي تمتلكه السلطات في مواجهة الجماهير الغاضبة، وما هو خارق للمعتاد، ذلك التوافق في الخطاب السلطوي بين البلدان التي تقع فيها فورات المدن، فجميع أجهزة الإعلام تستعمل المفردات نفسها: عناصر تخريب أجنبية، عناصر الفتنة والشغب والفوضى، اللصوص، الأيدي المشبوهة إلخ. يتبع ذلك خطاب من القمة يعلن تراجعا عن القرار الذي كان السبب المباشر للهيجان. ويلاحظ أن دم الشبيبة يشكل “قربانا” لانفتاح على صعيد الحريات الأساسية خوفا من انفجارات أخرى لا تحمد عقباها.
تخفي الفورات كل الاحتمالات الكامنة، وإن كان رد السلطة معروفا فمسار الأحداث ليس كذلك، إن مهمة كل من يرفض الطابع اللاإنساني للوجود المجتمعي أن يرفض التعامل السطحي مع هذه الظاهرة الذي يؤدي بالضرورة إلى القطيعة بين أصحاب الحقوق الضائعة والمدافعين عنهم، إن رفض الإدانة السريعة والرخيصة يشكل جسرا ضروريا لإعادة الثقة بالإنسان لمن حرم من كل مقومات الكلمة. وحري بنا تكثيف النضال لإيقاف عملية التهميش المتصاعدة للشبيبة وللمجتمع السياسي كي يشعر بناة الغد بأن كرامتهم تشكل هما من هموم الدولة والمجتمع.
هيثم مناع
الإمعان في حقوق الإنسان الجزء الأول