لعل من أكبر جرائم الإعلام الخليجي، فبركة وتنصيب قيادات رثة يمكن من خلالها السيطرة والتأثير والفعل في مستقبل بلدان قررت شعوبها التخلص من استبداد حكامها وفسادهم. لمحنا ذلك في ليبيا ومصر وسوريا. وكيف تم خلق نوع من القداسة على أسماء أقل من عادية ميزتها الرئيس أنها تحت السيطرة. كيف جرت عملية بناء شخصية “عبد الحكيم بلحاج” في ليبيا، وكيف تحول شبه أمي في الدين والسياسة (أبو مصعب الزرقاوي) إلى أسطورة في مقاومة الإحتلال الأمريكي البريطاني للعراق؟
إلا أن المثل الأنصع للأكاذيب الرثة، كان في عملية أسطرة “أبو محمد الجولاني” التي كلفت بها “قناة الجزيرة”.
لنستعرض كيف عرفت قناة الجزيرة العالم على الجولاني للعالم بعد مقابلات تمجيدية مع “الفاتح” أجراها تيسير علوني وأحمد منصور:
لنقرأ الحدث والتقديم:
كشفت قناة الجزيرة الفضائية، عن الهوية الحقيقية لزعيم جبهة النصرة، أبو محمد الجولاني، وهي المعلومات التي تنشر للمرة الأولى منذ الإعلان عن تشكيل الفرع الشامي من تنظيم القاعدة مطلع عام 2012، وتتوق أجهزة مخابرات عالمية مختلفة لمعرفتها، والتي يبدو أن الجولاني أذن بكشفها أخيراً في حين يحتفظ بكشف صورته لوقت آخر.
– المولد والنشأة
وطبقاً للمعلومات التي نشرتها الجزيرة، فإن اسم أبي محمد الجولاني الحقيقي هو “أسامة العبسي الواحدي”، وُلد عام 1981 في بلدة الشحيل التابعة لمدينة دير الزور وسط عائلة أصلها من محافظة إدلب، وانتقلت إلى دير الزور حيث كان الوالد موظفاً في القطاع الحكومي يعمل “سائقاً” في مصلحة الإسكان العسكري.
وأكمل الجولاني المراحل الأولى من التعليم النظامي، والتحق بكلية الطب في جامعة دمشق حيث درس الطب البشري سنتين، ثم غادر إلى العراق وهو في السنة الجامعية الثالثة، لينضم إلى فرع تنظيم القاعدة في العراق بعد الغزو الأمريكي 2003، حيث عمل تحت قيادة زعيمه الراحل أبو مصعب الزرقاوي ثم خلفائه من بعده، ولا يزال يقول إنه “مبايع” لزعيم القاعدة، أيمن الظواهري، ويعمل وفق توجيهاته وإرشاداته.
– تنظيم القاعدة
كان الجولاني -وهو طالب في الجامعة- يأتي من دمشق إلى حلب لحضور خطب الجمعة التي كان يلقيها محمود قول آغاسي (أبو القعقاع) في “جامع العلاء بن الحضرمي” بالصاخور، وحين تعرض العراق للغزو الأمريكي في مارس/آذار 2003، نادى آغاسي بضرورة مقاومة هذا الغزو فكان الجولاني ضمن أوائل الملبين لهذا النداء.
في العراق انضم الجولاني إلى فرع تنظيم القاعدة الذي أسسه الأردني أبو مصعب الزرقاوي وأعلن تبعيته لأسامة بن لادن، فترقى بسرعة في صفوف التنظيم حتى أصبح من الدائرة المقربة من الزرقاوي، وبعد اغتيال الأخير في غارة أمريكية 2006، خرج الجولاني من العراق إلى لبنان حيث يُعتقد أنه أشرف على تدريب “جند الشام” المرتبط بتنظيم القاعدة.
– سجن بوكا
ومن لبنان عاد الجولاني مجدداً إلى العراق فاعتقله الأمريكيون وأودعوه “سجن بوكا” الذي كانوا يديرونه جنوبي البلاد، ثم أطلقوا سراحه 2008 فاستأنف نشاطه العسكري مع ما كان يسمى “الدولة الإسلامية في العراق” التي تأسست في أكتوبر/تشرين الأول 2006 بقيادة أبو بكر البغدادي، وسرعان ما أصبح رئيساً لعملياتها في محافظة الموصل.
– بعد الثورة السورية
بعد أشهر من اندلاع الاحتجاجات الشعبية ضد نظام بشار الأسد، عاد الجولاني إلى سوريا في أغسطس/آب 2011 مبتعَثاً من تنظيم القاعدة لتأسيس فرع له في البلاد يمكّنه من المشاركة في القتال ضد الأسد.
وفي 24 يناير/كانون الثاني 2012 أصدر الجولاني بياناً أعلن فيه تشكيل “جبهة النصرة لأهل الشام” ممّن سماهم “مجاهدي الشام”، واتخذ من موطنه “الشحيل” منطلقاً لعمل هذه الجبهة، كما دعا في بيانه السوريين إلى الجهاد وحمل السلاح لإسقاط النظام، وصار من يومها يدعى في أدبيات الجبهة “المسؤول العام لجبهة النصرة”.
بخبر من 575 كلمة يوجد مئة كلمة صحيحة، والباقي فبركة وأكاذيب. بدأت عملية الأسطرة. وفي أقل من 48 ساعة أعادت الصحف القطرية نشر هذا “السبق” الإعلامي، ثم تكفلت مواقع “العربي 21″ و”الخليج أون لاين” و”نون بوست” و”بوابة الحركات الإسلامية” و”أخبار الآن” وقناة أورينت بإعادة نشر المعلومة لتصبح حقيقة أكيدة تعيد وسائل الإعلام الغربية نشرها، ويبدأ بها كل من يكتب مقالة عن النصرة وقيادتها. حتى قناة العالم الإيرانية تشارك في الاحتفال بل وتحاول أن تفسر “لماذا كشفت “الجزيرة” عن الاسم الحقيقي للجولاني؟”. كيف يمكن التشكيك بهذه الكذبة الصارخة وتيسير علوني من دير الزور وبالتالي يسهل عليه معرفة إن كان الجولاني شحيليا أو لا؟
تتسجل معلومة الجزيرة في الموسوعة الحرة ويكيبيديا، ويصبح من يكذبها ليس فقط عدوا للمجاهدين، بل “عميلا لمخابرات النظام الأسدي”. فكيف يمكن وهذا هو الحال، تصديق موقع متواضع لتنسيقية صغيرة من دير الزور، قتلت النصرة وداعش مؤسسيها، يقول:
“يا ناس، الجزيرة تكذب ولا يوجد في الشحيل أسامة العبسي الواحدي أصلا، والصفات التي تذكرها الجزيرة تنطبق على “أسامة محمد الحداوي” ، الذي كان طالب طب بشري في جامعة دمشق، ثم التحق بتنظيمات جهادية في العراق برفقة أخوه ثامر خلال سنوات الاحتلال الأمريكي، وانقطعت الأخبار عنه بعد ذهابهم، ومن المرجح أن أسامة وشقيقه قد قتلا منذ العام 2007 في العراق”.
تجري صناعة أسطورة طالب الطب الذي ترك الجامعة ورخاء العيش من أجل الجهاد (المسكين لم ينل علامات في البكالوريا تسمح له بالدخول إلى أية كلية جامعية؟)، وقد تتلمذ على أيدي الشيخ الجهادي أبو القعقاع محمود قول أغاسي (لن نقول رأينا في أبي القعقاع، بل نحيل القارئ إلى موقع الجزيرة نت الذي نشر تحقيقا بعنوان: أبو القعقاع داعية المخابرات السورية ؟)
أحمد حسين الشرع الذي لقبه أبو بكر البغدادي باسم الجولاني، كُلّف من البغدادي مع عدد من العراقيين وحزمة من المال، بالتوجه إلى سوريا بعد انطلاق الحراك الشعبي السلمي لإعلان الجهاد في بلاد الشام.
كان لدى أركان “دولة العراق الإسلامية” من الضباط السابقين في الجيش العراقي، قناعة مبكرة، بأن اختراق الجبهة السورية يسمح لهم بالوصول إلى البحر الأبيض المتوسط والسيطرة على دجلة والفرات ومناطق النفط الأساسية. فجرى تقسيم العمل في القيادة العسكرية بحيث تقوم مجموعة حجي بكر بالتحرك في شمال سوريا وتتكفل مجموعة المقدم عدنان اسماعيل نجم (أبو عبد الرحمن البيلاوي) باحتلال محافظة نينوى.
لتنفيذ هذا المشروع، الذي تحدث عنه طه صبحي فلاحة (أبو محمد العدناني) في مباهلاته مع قادة التيار السلفي في الكويت الذين حاولوا التوسط بين النصرة وداعش)، كان البغدادي وأبو مسلم التركماني بحاجة إلى وجه سوري، ولكنهما بنفس الوقت، لا يثقان كثيرا بغير العراقيين، فأرسلا في الوقت نفسه، إثنان من قيادة أركان “دولة العراق الإسلامية” إلى سوريا: العقيد سمير عبد المحمد العبيدي الدليمي (حجي بكر)، والمقدم علي أسود الجبوري (أبو أيمن العراقي) وكلاهما من أركان الجيش العراقي السابق.
لم يولد “الجولاني” في الشحيل، وليس أصل عائلته من إدلب. أصله جبيني من قرية قرب بلدة فيق في الجولان، ولا يوجد صلة قرابة أو نسب بين عائلة الشرع الجبينية وعائلة الشرع في خربة غزالة، ولا قرابة للجولاني مع فاروق حسين الشرع، نائب الرئيس ولا والدة هيثم مناع السيدة نجاح الشرع.
ولد أحمد الشرع في عائلة بعثية ووالده بعثي من جناح ميشيل عفلق، رجل فاضل واقتصادي، ونشأ الإبن في حي المزة في دمشق وكان انطوائيا ومتواضع الأداء الدراسي. والصحيح في كل ماقالته الجزيرة أنه تتلمذ على يد شيخ مقرب من المخابرات السورية.
الجزيرة تكمل عملية الأسطرة عن مصادرها الخاصة: “ذو ثقافة نوعية ومنوعة، ولديه مشروعه الديني الخاص الذي يعمل على تحقيقه، مستفيدا من أخطاء القاعدة في العراق التي يحاول تجنبها لتحقيق مشروعه في سوريا”، ويتم استقدام أكثر من خبير في الجماعات الجهادية ليحدثنا عن: “جيل جديد من قادة القاعدة والجهاد”.
لشديد الأسف، لم يكن في جعبة أحمد الشرع ثقافة أو مشروعا دينيا خاصا، وكان باستمرار بحاجة إلى شيخ جهادي يقتاده، بدأ مع الزرقاوي ثم البغدادي، وعندما أمره البغدادي بالإنصياع لمشروع داعش أعلن الطاعة للظواهري. وحتى عندما فك ارتباطه مع الظواهري انصياعا لطلب تركي قطري، جلس بين شيخين يحتمي بهما. لكنه رغم نقاط ضعفه الفكرية والثقافية، كان بارعا في تنظيم جهاز أمن النصرة وتمويلها. إلا أن هاتين الخصلتين، لا تصنعان “أسطورة”.
تستمر عملية التلميع التي يتكفل بها عادة برنامج “ما وراء الخبر”. فيخرج أحمد موفق زيدان ليشرح للأمة أن تصنيف جبهة النصرة على قائمة الإرهاب يقع ضمن الأساليب الغربية لمواجهة الحركات الثورية والجهادية، ألم يصنف نلسون منديلا وياسر عرفات على قوائم الإرهاب قبل الجولاني؟
لاستعراض ملف تلميع “جبهة النصرة” وأسطرة “الجولاني” ؟ أصبحنا اليوم نحتاج إلى مجلدات…
فهل من تعليق يليق بهذه الفضيحة غير قول الشاعر:
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم ….
أبو ذر الإدلبي