(منذ العشرين من سبتمبر 2012، يوم قام حاجز المخابرات الجوية على مدخل مطار دمشق الدولي، باختطاف المناضل الكبير الدكتور عبد العزيز الخير مع رفيقيه إياس عياش وماهر الطحان، ليس يتمكن أحد من التواصل مع المخطوفين الثلاثة ومازالوا في غياهب مجهول المجرم جميل حسن وعصاباته. ما زال جميل حسن يتصدر قوائم القتلة تحت التعذيب في سجون المخابرات الجوية، وبعد عام على خطف المناضلين الثلاثة، جرى اختطاف المحامي رجاء الناصر في حي البرامكة من قبل مخابرات النظام السوري.
بعض الذين اعتدوا على عبد العزيز الخير ورجاء الناصر وهيثم مناع وبسام الملك أمام مقر الجامعة العربية عاد إلى “أحضان أمن الوطن”، والقسم الآخر وقف يصرخ في استاد القاهرة في 25 يونيو 2013 لإعلان الجهاد في سوريا.. أما بدلاء أبو المجد وأبو طلال في هيئة التنسيق، فقد قرروا الالتحاق بفنادق النجوم الخمسة التي كانا يكرهانها. باستثناء نشاط الحقوقيين وحلقة الأصدقاء المقربين، لم يعد خطف عبد العزيز الخير ورجاء الناصر وإياس عياش وماهر الطحان قضية تستحق التوقف عندها. نعيد بث مقابلة للدكتور عبد العزيز الخير الطبيب والإنسان يتحدث فيها عن تجربته وراء القضبان ونعيد نشر مقالة الكاتب السوري عماد هاشم الذي وضع نقطة نظام لكل السوريين في قضية المناضل الكبير، نستأذن “رصيف 22” في إعادة نشرها.) :
عماد هاشم عن الثورة التي نسيت عبد العزيز الخير
لعلّ نسيان معظم أوساط الثورة السورية للمناضل عبد العزيز الخيّر هو خير دليل على مأزق هذه الثورة لا بل على مجموعة علل تكوينية رافقتها منذ خرجت في وجه نظام ظالم. الخيّر الذي نسيته الثورة السورية، ما عدا قلّة قليلة من رفاق دربه المقرّبين وقلّة أقل من الجمعيات الحقوقية، هو معارض يمتلك إحدى أبرز السير الذاتية في معارضة النظام إن لم تكن الأبرز على الإطلاق. ففي سيرته كل التهم التي كان يُتّهم بها معارضو النظام، من “الانتماء لجمعية سياسية محظورة” إلى “القيام بأنشطة مناهضة للنظام الاشتراكي للدولة” و”نشر أخبار كاذبة من شأنها زعزعة ثقة الجماهير بالثورة والنظام الاشتراكي” و”مناهضة أهداف الثورة” وغيرها من التهم التي وردت في قرار محكمة أمن الدولة العليا، أي المحكمة الاستثنائية لمعارضي النظام، عام 1995. ولكن كل ذلك لم يشفع له. فقبل خطفه في 20 سبتمبر 2012 وإخفائه، كانت القوى الأكثر فاعلية في الثورة السورية، أي ما عُرف بمعارضة الخارج، قد عملت على شيطنة هذا المناضل في سلوك دلّ على رفض الثورة للتنوّع منذ مراحلها التأسيسية.
المشهد المؤلم
الرجل الذي تخفّى أكثر من عشر سنوات في دمشق عن أعين النظام، ومَن يعرف النظام السوري يعرف ما يعني ذلك، فعلى سبيل المثال لا الحصر اعتُقلت زوجته منى صقر الأحمد وكانت أماً لطفل في السابعة من عمره لأكثر من أربع سنوات (من أغسطس 1987 حتى ديسمبر 1991)، والرجل الذي سُجن 13 سنة بين الأول من فبراير 1992 ونهاية عام 2005، قضى معظمها في سجن صيدنايا، هذا الرجل جاء بعض فراخ الثورة السُذّج، الحديثي العهد بالمعارضة، ليتهموه بالتواطؤ مع النظام وبخيانة الثورة. ولا يزال حاضراً بأسى المشهد المؤلم لتعرّضه للضرب والرشق بالبيض والبندورة في القاهرة حين كان عضواً في وفد “هيئة التنسيق الوطنية” الذي حاول الدخول إلى مقرّ جامعة الدول العربية تلبيةً لدعوة وُجّهت إليه. حينذاك تفاخر الفراخ السُذّج الذين سُمّوا، على دارج التسميات آنذاك، بـ”تنسيقية الثورة السورية في مصر”، بفعلتهم وبأنهم أسالوا دماء المعارضين غير المرضي عنهم في أوساط “المجلس الوطني السوري”. والمؤسف أكثر من ذلك كان صمت المعارضين الكبار و”مثقفي” الثورة عمّا حدث. كانت تلك أولى الإشارات إلى وراثة التيار الأبرز في المعارضة السورية لثقافة حزب البعث التي لا تقبل التعدّد في الآراء ولا ترضى بوجود أيّ حزب أو تيار سياسي إلا إذا كان تابعاً لـ”الحزب القائد”. كانت إشارة فاقعة ولم يسترها آنذاك سوى ظلم النظام واستخدامه آلة العنف بشراسة. ولكن الآن، يجب الاعتراف بأن مداراة هذا التيار الأبرز كانت خطأ من الأخطاء التي ارتُكبت بحق الثورة السورية.
بعثية بالمقلوب
نسيان عبد العزيز الخيّر يعني أيضاً تجنّب التيار الأبرز في المعارضة الحديث عن العلاقة بين الطوائف وبالتحديد العلاقة بين العرب السنّة والعلويين، وربما هو ليس تجنّباً بل عدم أهلية للتطرّق إلى أبرز قضايا المجتمع السوري. تلاعب النظام السوري تاريخياً بهواجس العلويين الموروثة عن ماضٍ سحيق، وخلق هواجس أكثر إخافة، وكل ذلك من أجل أن يقول لأبناء هذه الطائفة أن لا وجود لهم ولا استمرارية إذا ما زال. وفي هذا السياق انضم الكثير من العلويين إلى أجهزة استخباراته الرسمية وغير الرسمية حتى صارت صورة العلوي هي صورة الإنسان غير الموثوق به أينما حلّ. ولكن هذا لا يبرّر طريقة تعاطي التيار الأبرز في المعارضة مع العلويين، فهو أيضاً لعب دوراً في هذا الانحدار وعمل على تربية هواجس متبادلة بين أبناء المجتمع السوري، أقلّه لأنه جبُنَ عن التصدّي بصراحة وجرأة لإشكالية العلاقة بين الطوائف السورية. وبجُبنه هذا، تواطأ مع النظام السوري على محو أثر عبد العزيز الخيّر من التاريخ السياسي المعاصر لسوريا ومن ذاكرة السوريين. هذا التيار لم يجرؤ على الوفاء لسيرة هذا المناضل لسببين، الأول هو أنه يربّي قاعدة ولاء طائفية محصورة بأبناء المكوّن العربي السنّي الذي لا يحب الحديث عن أي شيء علوي إلا إذا كان يمكن وصفه بالشيطان، والثاني لأن الخيّر هو نقيضه فهو الانفتاح في مقابل الانغلاق على الطريقة البعثية. وما تعاطي المجلس الوطني السوري ومن بعده الإئتلاف مع قضية الأكراد السوريين إلا دلالة على ضيق أفق ما يمثلانه حيال كل ما هو متنوّع في المجتمع السوري. إنها بعثية ولكن بالمقلوب ولا يشفع لها أنها بعكس البعثية تدّعي تمثيل أكثرية أبناء المجتمع السوري لا أقلية منه.
طمس تاريخ سوريا المعاصر
وحده عبد العزيز الخيّر من بين المعتقلين المعروفين للعامة يعبّر عن الثنائية المؤسسة للثورة السورية، أي ثنائية الشعب في مواجهة النظام. في سجون النظام آلاف المعتقلين المعارضين ولكن الخيّر هو الإسم الأبرز بينهم. باقي المعتقلين الذين يعرفهم السوريون والعرب المهتمون بالشأن السوري هم ضحايا للصراع بين أجنحة المعارضة. وحده الخيّر يعبّر عن الثنائية المؤسسة. ومع ذلك تفضّل “المعارضة” إخفاء جريمة النظام بحقّه. يحاول بعض المعارضين طمس التاريخ السياسي المعاصر لسوريا. والقوّة الدافعة لهذا الميل هم معارضو الصدفة الذين ناموا في أحضان النظام ثم استفاقوا عام 2011 وسمّوا أنفسهم معارضين. لم يعد من مكان في تصوّراتهم عن سوريا المستقبل لمَن كتب “الكتاب الأسود” الذي وثّق القمع الذي يعانيه السوريون. ولم يعد من مكان لكاتب بيان “عرس الديكتاتورية” الذي فضح استبدادية الاستفتاء على الرئاسة عام 1991. لم يعد من مكان لرجل عاد إلى العمل السياسي المعارض فور انتهاء سنوات سجنه الـ13، والذي لم يغب عن أبرز محطات الاعتراض السوري وعلى رأسها “إعلان دمشق”. هؤلاء يريدون إلغاء تاريخ سوريا ما قبل العام 2011، ويظنّون أن لقب المعارض المستحدث يطهّرهم من آثامهم. لذلك من الأنسب لهم طمر عمق سوريا التاريخي وعبد العزيز الخيّر هو من هذا العمق.